وقال أبو البقاء : و « خَلَقَ الإنسَانَ » مستأنف، وكذلك « علَّمَهُ »، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان مقدرة، وقدَّر معها مرادة انتهى.
وهذا ليس بظاهر، بل الظاهر ما تقدم، ولم يذكر الزمخشري غيره.
فإن قيل : لم قدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه، وهو متأخر عنه في الوجود؟.
فالجواب : لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.
فإن قيل : كيف صرح بذكر المفعولين في « علَّمهُ البَيانَ »، ولم يصرح بهما في « علَّم القُرآن »؟.
فالجواب : أن المراد من قوله « علَّمه البَيَانَ » تعديد النِّعم على الإنسان، واستدعاء للشكر منه، ولم يذكر الملائكة؛ لأن المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان.
فإن قيل : بأنه علم الإنسان القرآن.
فيقال : بأن ذكر نعمة التعليم وعظمها على سبيل الإجمال، ثم بين كيفية تعليمه القرآن، فقال :﴿ خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان ﴾.
واستدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الألفاظ توقيفية.
قوله :﴿ والشمس والقمر بحسبان ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشمس مبتدأ، و « بِحُسْبَان » خبره على حذف مضاف، تقديره : جري الشمس والقمر بحسبان، أي كائن، أو مستقر، أو استقر بحُسْبَان.
الثاني : أن الخبر محذوف يتعلق به هذا الجار، تقديره : يجريان بحُسْبَان.
وعلى هذين القولين، فيجوز في الحسبان وجهان :
أحدهما : أنه مصدر مفرد بمعنى « الحُسْبان »، فيكون ك « الشُّكْران » و « الكُفْران ».
والثاني : أنه جمع حساب، ك « شهاب » و « شُهْبَان ».
والثالث : أن « بحسبان » خبره، و « الباء » ظرفية بمعنى « في » أي : كائنان في حسبان.
وحسبان على هذا اسم مفرد، اسم للفلك المستدير، مشبهة بحسبان الرَّحَى الذي باستدارته تدور الرّحى.

فصل


لما ذكر خلق الإنسان وإنعامه عليه لتعليمه البيان، ذكر نعمتين عظيمتين، وهما : الشمس والقمر، وأنهما على قانون واحد وحسابٍ لا يتغيران، وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها، ولولا الشمس لما زالت الظلمة، ولولا القمر لفات كثير من المنافع الظاهرة، بخلاف غيرهما من الكواكب، فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما، وأنهما بحساب لا يتغير أبداً، ولو كان مسيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزِّراعات في أوقاتها، ومعرفة فصول السَّنة.
ثم لما ذكر النعم السماوية وذكر في مقابلتها أيضاً نعمتين ظاهرتين من الأرض، وهما : النبات الذي لا ساق له، وما له ساق؛ لأن النبات أصل الرزق من الحبوب والثمار، والحشيش للحيوان.
وقيل : إنما ذكر هاتين النعمتين بعد تعليم القرآن إشارة إلى أن من الناس من لا تكون نفسه زكيّة، فيكتفي بأدلة القرآن، فذكر له آيات الآفاق، وخص الشمس والقمر؛ لأن حركتهما بحسبان تدل على الفاعل المختار.


الصفحة التالية
Icon