وقد تقدم [ الخلاف ] في الصدق والكذب، واستدلالهم بهذه الآية، والجواب عنها في أول البقرة.
وقال القرطبي هنا : معنى « نَشْهَدُ » نحلفُ، فعبر عن الحلف بالشهادة؛ لأن كل واحدٍ من الحلف والشهادة إثباتٌ لأمر مُغَيَّب، ومنه قول قيس بن ذريح :[ الطويل ]

٤٧٧١ - وأشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أني أحِبُّهَا فَهَذَا لَهَا عِنْدِي، فَمَا عِنْدهَا لِيَا؟
ونظيره قول الملاعن : أشهدُ بالله.
قال الزمخشري :« والشهادة تجري مجرى الحلف في التوكيد. يقول الرجلُ : أشهدُ، وأشهدُ بالله، وأعزمُ، وأعزمُ بالله في موضع » أقْسِمُ وأُولي «، وبه استشهد أبو حنيفة على أن » أشهدُ « يمين ».
ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله ﷺ اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم وهو الأشبه.
قوله :﴿ والله يَعْلَمُ ﴾.
جملة معترضة بين قوله :﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ﴾ وبين قوله :﴿ والله يَشْهَدُ ﴾ [ لفائدة.
قال الزمخشري :« ولو قال :» قالوا : نشهد إنك لرسول الله، واللَّهُ يشهدُ إنَّهُم لكاذبُون « لكان يُوهِمُ أن قولهم هذا كذبٌ، فوسط بينهما قوله :» واللَّهُ يعلمُ إنَّكَ لرسُولُه « ليُميطَ هذا الإبهام ».
قال القرطبي :﴿ والله يعلم إنك لرسوله ﴾ كما قالوه بألسنتهم ]، ﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ ﴾ بضمائرهم، فالتكذيبُ راجع إلى الضمائر وهذا يدلُّ على أن الإيمان تصديقُ القلب، وعلى أنَّ الكلام الحقيقي كلامُ القلب، ومن قال شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذبٌ، وقيل : أكذبهم الله في أيمانهم، وهو قوله :﴿ وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ ﴾ [ التوبة : ٥٦ ].
قال ابن الخطيب : فإن قيل : لو قالوا : نعلم إنَّك لرسولُ الله مكان قولهم : نشهد إنَّكَ لرسُولُ اللَّهِ، تفيد ما أفاد قولهم : نشهد؟.
فالجواب : لا؛ لأن قولهم :﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ﴾ صريحٌ في الشَّهادة على إثبات الرسالة، وقولهم : نعلم ليس بصريح في ذلك.
قوله :﴿ اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾.
قد تقدم الكلام أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط.
ويجوز أن يكون مستأنفاً جيء به لبيان كذبهم وحلفهم عليه، أي أنَّ الحامل لهُم على الأيمانِ اتقاؤهم بها عن أنفسهم.
والعامة : على فتح الهمزة، جمع يمين.
والحسن : بكسرها مصدراً.
وتقدم مثله في « المجادلة »، والجُنَّةُ : التُّرْس ونحوه، وكل ما يقيك سوءاً. ومن كلام الفصحاء :[ جُبَّةُ البرد ] جُنَّةُ البردِ.
قال أعشى همدان الشاعر :[ الطويل ]
٤٧٧٢ - إذَا أنْتَ لَمْ تَجْعَلْ لعرضِكَ جُنَّةً مِنَ المَالِ سَارَ الذَّمُّ كُلَّ مَسِيرِ

فصل


قال القرطبي وغيره : اتَّخذُوا أيمانهُم جُنَّةً، أي : سُترةً، وليس يرجع إلى قوله :﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ﴾ وإنَّما يرجعُ إلى سبب الآيةِ التي نزلت عليه حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن أبيّ أنه حلف ما قال، وقد قال، وقال الضحاك : يعني : حلفهم بالله « إنهم لمنكم ».
وقيل : يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة « براءة » في قوله :


الصفحة التالية
Icon