وفي التفسير : هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه فيرثه غيره، فيعمل فيه بطاعة الله، فيدخل الأول النار، والثاني الجنة بذلك المال، فذلك هو الغَبْن البَيِّن والمغابن : ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين.
والمغبون : من غبن في أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يؤمئذ غَبْن كُلِّ كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام.
قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه.
فإن قيل : فأيُّ معاملة وقعت بينهما حى يقع الغبن فيها؟.
فالجواب : هو تمثيل للغَبْنِ في الشِّراء والبيع كقوله :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ ﴾ [ البقرة : ١٦ ]، فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خَسِرُوا، ذكر أيضاً أنهم غُبِنُوا، وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً، وقد فرق الله الخلق فريقين : فريقاً للجنة وفريقاً في السعير.
وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف :
رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يُسَألُ عنها وشحَّ عليه وفرط في طاعة ربه بسببه، ولم يعمل فيه خيراً وتركه لوارث لا حساب عليه، فعمل ذلك الوارث في بطاعة ربه، ورجل كان له عبد، فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي.
وروى القرطبي عن النبي ﷺ أنه قال :« إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقِيمُ الرَّجُلَ والمَرْأةَ يَوْم القِيامَةِ بَيْنَ يَديْهِ، فيقُولُ اللَّهُ تَعَالى لَهُمَا : قُولا مَا أنتما بِقَائِلين، فيقُولُ الرَّجُلُ : يَا ربِّ أوْجَبْتَ نَفَقَتَهَا عليَّ فَتَعَسَّفْتُها من حلالٍ أو مِنْ حَرامٍ، وهؤلاءِ الخُصُومُ يَطْلبُونَ ذلِكَ، ولَمْ يَبْقَ لي ما أوفِّي فتقُولُ المَرْأةُ : يا ربِّ، وما عَسَى أَن أقُولَ، اكتسَبَهُ حَرَاماً وأكَلْتُهُ حلالاً، وعَصَاكَ فِي مَرْضَاتِي ولَمْ أرْضَ لَهُ بِذَلِكَ، فبُعْداً لَهُ ومُحْقاً، فيقُولُ اللَّهُ تعالى : قَدْ صَدَقْتِ فيُؤمَرُ بِهِ إلى النَّارِ، ويُؤمَرُ بِهَا إلى الجَنَّةِ فتطلعُ عليْهِ من طبقَاتِ الجَنَّة، فتقُولُ لَهُ : غَبنَّاكَ غَبنَّاكَ، سَعِدْنَا بِمَا شَقِيتَ أنت؛ فذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ».
فصل
استدلّ بعض العلماء بقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ التغابن ﴾ على أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية، لأن الله تعالى خَصَّ التغابن بيوم القيامة فقال :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ التغابن ﴾، وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في بيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون، واحتجوا عليه بقوله - ﷺ - لحبان بن منقد :« إذا بِعْتَ فَقُل : لا خَلابَةَ ولَكَ الخِيَارُ ثلاثاً ».
ولأن الغَبْنَ في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخِدَاع المحرم شرعاً في كل ملّة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه فمضى في البيوع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً؛ لأنه لا يخلو منه، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به، والفرق بين القليل والكثير في الشريعة معلوم فقدرناه بالثلث، وهذا الحد اعتبر الشارع في الوصية وغيرها.