« إنَّ اللَّه تعالى أذلَّ بَنِي آدَمَ بالموتِ، وجَعلَ الدُّنْيَا دَار حياةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ، وجَعَل الآخِرةَ دَارَ جزاءٍ، ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ ».
وعن أبي الدَّرداء أن نبيَّ الله ﷺ قال :« لَوْلاَ ثلاثٌ ما طَأطَأ ابنُ آدَمَ رَأسهُ : الفَقْرُ، والمَرَضُ والمَوتُ ».
وقيل : إنما قدم الموت على الحياة؛ لأن من نصب الموت بين عينيه، كان أقوى الدواعي له إلى العمل الصالح.
قال ابن الخطيب : قالوا : الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر، واختلفوا في الموت.
فقيل : إنه عبارة عن عدم هذه الصفة، وقال أصحابنا : إنه صفة وجودية مضادة للحياة، واحتجوا بقوله تعالى :﴿ الذي خَلَقَ الموت ﴾ والعدم لا يكون مخلوقاً، وهذا هو التحقيق.
وروى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ : أن الله - تعالى - خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلاَّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البَغْل لا تمر بشيء، ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي على ما سيأتي.
قال ابن الخطيب : وهذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل، والتصوير، وإلا فالتحقيق ما ذكرنا.

فصل في الموت والحياة


حكى ابنُ عباس، والكلبي ومقاتلٌ : أن الموت والحياة يجسمان، فالموت في هيئة كبْش لا يمر بشيء، ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاءَ وهي التي كان جبريل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يركبونها، خطوتُها أمدُ البصر فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء يجد ريحاً إلا يحيى، ولا تطأ على شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السَّامري من أثرها، فألقاها على العِجْل فحيي. حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس، والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي.
وعن مقاتل :« خَلَقَ المَوْتَ » يعني : النُّطفة والعلقة والمُضغة، وخلق الحياة، يعني خلق إنساناً، ونفخ فيه الروح، فصار إنساناً.
قال القرطبيُّ : وهذا حسن، يدل عليه قوله تعالى :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾.
قوله :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾. متعلق ب « خلق ».
وقوله :﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ تقدم مثله في أول « هود » [ الآية ٧ ].
وقال الزمخشريُّ هنا :« فإن قلت : من أين تعلق قوله ﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾، بفعل البلوى؟ قلت : من حيث إنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملاً، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثَّاني من مفعوليه كما تقول : علمته هو أحسن عملاً، فإن قلت : أتسمي هذا تعليقاً؟.
قلت : لا، إنما التعليق أن يقع بعده ما يسد مسدَّ المفعولين جميعاً، كقولك : علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق، ألا ترى أنه لا فرق بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الاستفهام وغير مصدر به، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : عَلِمْتُ أزيدٌ منطلق، وعلمت زيداً منطلقاً »
.


الصفحة التالية
Icon