فصل
لما قال تعالى :﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ ذكر الدليل على أنه عالم، فقال :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾ الآية، والمعنى : أن من خلق لا بُدَّ وأن يكون عالماً بما يخلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء، لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية.
قال ابن الخطيب : فنقول : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها، وهو غير عالم لأن التفاوت بين الحركةِ السريعةِ، والبطيئة إنما هو لتحلُّل السَّكناتِ، فالفاعل للحركة البطيئةِ قد يفعل حركة، وسكوناً، ولم يخطر بباله ذلك فَضْلاً عن كميته، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلاَّ إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها، وذلك غير معلومٍ، ولأنَّ النائم يتحرك مع عدم علمه؛ ولأن قوله :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾ إنما يتصل بما قبله لو كان خالقاً لكل ما يفعلونه سرًّا وجهراً، وبما في الصدور.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد؟.
فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئاً يكون عالماً بشيء آخر.
قوله :﴿ وَهُوَ اللطيف الخبير ﴾.
قيل : اللطيف : العالم.
وقيل : هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين، ولهذا يقال : إن لُطْف الله تعالى بعباده عجيب، والمراد به دقائق تدبيره لهم، وهذا أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعد تكراراً.
قوله :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً ﴾ لما بين الدليل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً : يا فلانُ أنا أعلم سرك وعلانيتك، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك، وكل هذا الخير الذي هيأته لك، ولا تأمن تأديبي، فكأنه تعالى يقول : يا أيها الكُفَّار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم، فخافوني؛ فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم، ولو شئت خسفت بكم.
والذَّلُولُ : المنقاد الذي يذلّ لك، والمصدر الذل وهو اللين والانقياد، أي : لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة.