قوله ﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾.
قد تقدم الكلام على نظيره في « الطُّور » في قوله ﴿ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ﴾ [ الطور : ٢٩ ].
إلا أن الزمخشري قال هنا :« فإن قلت : بم تتعلق الباء في » بِنعْمَةِ ربِّك « وما محله؟ قلت : متعلق بمجنون منفياً كما يتعلق بعاقل مثبتاً كقولك : أنت بنعمة ربِّك عاقل، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً، وما ضرب زيد عمراً، فعمل الفعل منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً، ومحله النصب على الحال كأنه قال : ما أنت مجنوناً منعماً عليك بذلك، ولم تمنع الباء أن يعمل » مَجْنُون « فيما قبله، لأنها زائدة لتأكيد النفي ».
قال أبو حيَّان :« وما ذهب إليْهِ الزمخشريُّ، من أن الباء يتعلق بمجنون، وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي في محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان :
أحدهما : أن النفي يسلط على المعمول فقط.
والآخر : أن يسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه، ببيان ذلك أن تقول : ما زيد قائم مسرعاً، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع، والوجه الآخر : أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه، أي : لا قيام، فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري، بل يؤدي إلى ما لا يجوز النطق به في حق المعصوم » انتهى.
واختار أبو حيان أن يكون « بِنعمَةِ » قسماً معترضاً به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم.
وقال ابن عطية :« بنِعْمةِ ربِّك » اعتراض، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل، قال : ولم يبين ما تتعلق به الباء في « بِنعْمَةِ ».
قال شهاب الدين : والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفياً وإثباتاً كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد الله، والباء سببية، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى، وأما المثال الذي ذكره، فالباء تتعلق فيه بلفظ « فاضل » وقد نحا صاحب « المُنَتخَب » إلى هذا فقال : المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك.
وقيل : معناه مَا أنْتَ مجنُونٌ والنعمة لربك، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك، أي : والحمد لله؛ وقول لبيد :[ الطويل ]
٤٨٠٨ - وأفْرِدْتُ في الدُّنْيَا بفقْدِ عشِيرَتِي | وفَارقَنِي جارٌ بأربدَ نَافِعُ |