أي وهو أربد، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى.
فصل في إعراب الآية
قوله تعالى :﴿ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾. هذا جواب القسم، وهو نفي.
قال الزجاج :« أنت » هو اسم « مَا » و « مَجْنُون » الخبر، وقوله :﴿ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ﴾ كلام وقع في الوسط، أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل.
روى ابن عباس : أنه ﷺ غاب عن خديجة إلى حراء، وطلبته، فلم تجده، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار، فقالت : ما لك؟.
فذكر جبريل - عليه السلام - وأنه قال له :﴿ اقرأ باسم رَبِّكَ ﴾ [ العلق : ١ ]، فهو أول من نزل من القرآن، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض، فتوضأ، وتوضأت، ثم صلى، وصليت معه ركعتين، وقال : هكذا الصلاة - يا محمد - فذكر النبي ﷺ ذلك لخديجة، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل - وهو ابن عمها - وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية، فسألته فقال : أرسلي إليّ محمداً، فأرسلته فقال : هل أمرك جبريل - عليه السلام - أن تدعو أحداً؟ فقال : لا فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً، ثم مات قبل دعاء الرسول ﷺ ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش، فقالوا : إنه مجنون، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون، وهو خمس آياتٍ من أول هذه السورة، قال ابن عباسٍ : أول ما نزل قوله تعالى :﴿ سَبِّحِ اسم رَبِّكَ ﴾ [ الأعلى : ١ ]، وهذه الآية هي الثانية، نقله ابن الخطيب.
وذكر القرطبيُّ : أن المشركين كانوا يقولون للنبي ﷺ : مجنون به شيطان وهو قوله ﴿ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [ الحجر : ٦ ] فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم ﴿ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ﴾ [ الطور : ٢٩ ] أي : برحمة ربك، والنعمة هاهنا الرحمة. وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربِّك عليك بالإيمان والنبوة.
قال القرطبي :« ويحتمل أن النعمة - هاهنا - قسم، تقديره : ما أنت، ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم » وقد تقدم.
فصل
قال ابن الخطيب : اعلم أنه تعالى وصفه - هاهنا - بصفات ثلاث :
الأولى : نفي الجنون عنه ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، لأن قوله :﴿ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ﴾ يدل على أن نعم اللَّه تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والبراء من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم ظاهرة محسوسة ووجودها ينافي حصول الجنونِ، فالله تعالى نبه على أن هذه الحقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم :« إنه مجنُون ».
الصفة الثانية : قوله :﴿ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ أي : ثواباً على ما تحملت غير منقوص ولا مقطوع منه، يقال : منَّ الشيء إذا ضعف، ويقال : مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين إذا كان غير متين.