واعلم أن صاحب الكشَّاف أورد هذا التأويل في معرض آخر، فقال : الكشف عن السَّاق مثلٌ في شدَّة الأمر، فمعنى ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ يوم يشتد، ويتعاظم، ولا كشف ثمَّ ولا ساقَ، كما تقول : الشحيح يده مغلولة، ولا يد ثمَّ، ولا غل، وإنما هو مثل في البخلِ، ثم أخذ يعظم علم البيانِ ويقول : لولاه ما وقفنا على هذه الأسرارِ، وأقولُ : إما أن يدعي أنه يجوز صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، أو تقول : لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة، والأول باطل بالإجماع، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفةِ في أمر المعاد، فإنهم يقولون في قوله :﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ [ الحج : ٢٣ ] ليس هناك أنهار ولا أشجار، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى :﴿ اركعوا واسجدوا ﴾ [ الحج : ٧٧ ] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع، وفساد الدينِ، وأما من قال : إنه لا يصار إلى التأويل، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره، فهذا قولُ كُلِّ أحد من المتكلمين، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطةِ علم البيان، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم، أو ساق العرش، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ « أنَّهُ تعالى يتَمثَّلُ للخَلْق يَوْمَ القِيامةِ حِيْنَ يَمُرُّ المُسْلمُونَ فيقول : مَنْ تَعْبُدُونَ؟ فيقولون : نَعْبُدُ اللَّهَ فيُشْهدُهمْ مرَّتينِ، أو ثلاثاً، ثُمَّ يقُولَ : هَلْ تَعْرفُون ربَّكُمْ؟ فيقولون : لَوْ عرَّفنَا نَفسَهُ عرفْناهُ، فعِنْدَ ذلِكَ يُكْشَفُ عن سَاقٍ فَلا يَبْقَى مُؤمِنٌ إلاَّ خَرَّ للَّه ساجِداً، ويَبْقَى المُنافِقُونَ ظُهُورهُمْ كالطَّبَقِ الوَاحدِ، كأنَّما فيهَا السَّفافِيدُ ».
قال : واعلم أن هذا القول باطل لوجوه :
أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناهٍ محدث، وأنّ كلَّ جسم ممكن وكل ممكن محدث.
وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده، وهي ساق الرحمن، أما إذا أجملت ففائدة التنكير : الدلالة على التعظيم، كأنه قال : يوم يكشف عن شدة، وأي شدة لا يمكن وصفها.
وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق، وإنما يحصل بكشف الوجه، ثم حكى قول أبي مسلم : بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة؛ لأنه تعالى قال في وصفه :﴿ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود ﴾ ويوم القيامة ليس فيها تعبد، ولا تكليف، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه، كقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon