قال أبو البقاء :« وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها، ولو كان التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية لشدة اتصال الصفة بالموصوف ».
وقرأ الأعمش :« قَوَارِيرُ » بالرفع، على إضمار مبتدأ، أي : هي قوارير، و « مَنْ فضَّةٍ » صفة ل « قوارير »، والمعنى : في صفاء القوارير، وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة.
فصل في وصف تربة الجنة
رُوي أن أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي منها، ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، وقال : ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة.
قال ابن الخطيب : ومعنى « كانت » هو من يكون، من قوله :﴿ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ] أي : فتكونت قوارير بتكوين الله - تعالى - تفخيماً لتلك الخلقةِ العظيمة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين، ثم قال : فإن قيل : كيف تكون هذه الأكوابُ من فضة ومن قوارير؟.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن أصل القوارير في الدنيا الرَّمل، وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة، فكما أن الله - تعالى - قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية، فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة، فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين فكذا بين القارورتين.
وثانيها : ما تقدم من قول ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، أي : أنها جامعة بين صفاء الزجاج وشفافيته وبين نقاء الفضة وشرفها.
وثالثها : أنه ليس المراد بالقوارير الزجاج، بل العرب تسمي ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة مما رق وصفا قارورة، فالمعنى : وأكواب من فضة مستديرة صافية.
قوله :﴿ تَقْدِيراً ﴾ صفة ل « قوارير »، والواو في « قَدَّرُوها » فيها وجهان :
أحدهما : أنها عطف عليهم، ومعنى تقديرهم إياها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروا.
والثاني : أن الواو للطائفين للدلالة عليهم في قوله تعالى :« ويُطَافُ »، والمعنى : أنهم قدروا شرابها على قدر ريِّ الشارب، وهذا ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها، ولا يعجز. قاله الزمخشري.
وجوز أبو البقاء : أن تكون الجملة مستأنفة.
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : أتوا بها على قدر ريِّهم بغير زيادة ولا نقصان، قال الكلبي : وذلك ألذّ وأشهى، والمعنى : قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قدروها على ملء الكف لا يزيد ولا ينقص حتى لا تؤذيهم بثقل، أو بإفراط صغر.