قوله تعالى :﴿ إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة ﴾. توبيخ وتقريع والمراد أهل « مكة »، والعاجلة، الدنيا.
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله ﷺ بالتعظيم والأمر والنهي، عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين، فقال تعالى :﴿ إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة ﴾، ومعناه : إن الذي حمل هؤلاء على الكفر والإعراض عما ينفعهم في الآخرة، هو محبتهم اللذات العاجلة والراحات الدنيوية البدنية.
قوله :﴿ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ ﴾، أي : بين أيديهم، وقال :« وَرَاءَهُم » ولم يقل : قُدَّامهم لأمور :
أحدها : أنهم لما أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم.
وثانيها : المراد : يذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل، أي عسير، فأسقط المضاف.
وثالثها : أن « وراء » يستعمل بمعنى « قُدّام »، كقوله تعالى :﴿ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ﴾ [ إبراهيم : ١٦ ] ﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ ﴾ [ الكهف : ٧٩ ].
وقال مكي : سمّي « وراء » لتواريه عنك، فظاهر هذا أنه حقيقة، والصحيح أنه استعير ل « قُدّام ».
قوله :« يَوْماً ». مفعول ب « يَذَرُونَ » لا ظرف، وصفه بالثقل على المجاز؛ لأنه من صفات الأعيان لا المعاني.
وقيل : معناه يتركون الإيمان بيوم القيامة.
وقيل : نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول ﷺ وصحة نبوته، وحبُّهم العاجلة : أخذهم الرّشا ما كتموه، وقيل : أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا، والآية تعُمّ، واليوم الثقيل : يوم القيامة، وسمي ثقيلاً لشدائده وأهواله وقيل : للقضاء فيه بين العباد.
قوله تعالى :﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ ﴾ أي من طين، ﴿ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ ﴾ أي : خلقهم. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم، والأسر : الخلق.
قال أبو عبيد : يقال : فرس شديد الأسر، أي : الخلق، ويقال : أسره الله، إذا شدد خلقه؛ قال لبيدٌ [ الرمل ]

٥٠٥١- سَاهِمُ الوجْهِ شَدِيدٌ أسْرهُ مُشْرِفُ الحَارِكِ مَحْبُوكُ الكَتِدْ
وقال الأخطل :[ الكامل ]
٥٠٥٢- مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَديدٍ أسْرهُ سَلِسُ القِيَادِ تخَالهُ مُخْتَالاً
وقال أبو هريرة والحسن والربيع رضي الله عنهم : شَددْنَا مفَاصِلهُمْ.
قال أهل اللغة : الأسر : الرَّبْط، ومنه : أسِرَ الرجُل، إذا أوثق بالقيد، وفرس مأسورة الخلق وفرس مأسورة بالعقب، والإسار : هو القيد الذي يشد به الأقتاب، تقول : أسرت القتب أسراً، أي : شددته وربطته.

فصل في معنى الأسر


قال ابن زيد : الأسر القوة، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية، أي : سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي.
قال ابن لخطيب : وهذا الكلام يوجب عليهم طاعة الله تعالى من حيث الترغيب والترهيب؛ أما الترغيب فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة، وخلق لهم جميع ما يمكن الانتفاع به، فإذا أحبوا اللذات العاجلة، وتلك اللذات لا تحصل إلا بالمنتفع والمنتفع به، وهما لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده، وهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرُّد.


الصفحة التالية
Icon