وأما الترهيب فإنه قادرٌ على أن يميتهم وأن يسلُب النعم عنهم، وأن يلقي بهم في كل محنة وبلية، فلأجل الخوف من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرّد، فكأنه قيل : هبْ أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة حسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله - تعالى - والانقياد له، فلم توسلتم به إلى الكفر بالله - تعالى - والإعراض عن حكمه.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطْوَعَ لله منهم.
وقال ابن الخطيب : معناه : إذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم كقوله تعالى :﴿ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ﴾ [ الواقعة : ٦١ ]، والغرض منه : بيان الاستغناء التام عنهم، كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة، وبتقدير إن ثبتت الحاجة، فلا حاجة بنا إلى هؤلاء الأقوام؛ فإنا قادرون على إبدالهم وإيجاد أمثالهم، ونظيره قوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٩ ]، ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾ [ النساء : ١٣٣ ]. وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهم - معناه : لغيرنا محاسنهم إلى أقبح الصور.
وقيل : أمثالهم في الكفر.

فصل في نظم الآية


قال الزمخشري في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا شِئْنَا ﴾ : وحقه أن يجيء ب « إن » لا ب « إذا »، كقوله تعالى :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ [ محمد : ٣٨ ]، ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ يعني : أنَّ « إذا » للمحقَّق، و « إن » للمحتمل، وهو تعالى لم يشأ ذلك، وجوابه أن « إذا » قد تقع موقع « إن » كالعكس.
قال ابن الخطيب : فكأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف، لأن كل واحد من « إن » و « إذا » حرف شرط، إلا أن حرف « إن » لا يستعمل فيما هو معلوم الوقوع، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك.
أما حرف « إذا » فإنه يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع تقول ابتداء : إذا طلعت الشمس - فهاهنا - لما كان الله تعالى عالماً أنه سيجيء وقت يبدل الله تعالى فيه أولئك الكفرة بأمقالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف « إذا ».
قوله تعالى :﴿ إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ ﴾. أي : هذه السورة موعظة، ﴿ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ أي : طريقاً موصِّلاً إلى طاعته.
وقيل :« سبيلاً » أي وسيلة.
وقيل : وجهة وطريقة إلى الخير والمعنى : أنّ هذه السورة لما فيها من الترتيب العجيب، والوعد الوعيد، والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمتبصرين.

فصل في قول الجبرية


قال ابن الخطيب : متى ضمت هذه الآية إلى الآية بعدها خرج منهما صريح مذهب الجبر، لأن قوله تعالى :﴿ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ الآية يقتضي أن مشيئة العبد متى كانت خالصة، فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله تعالى بعد ذلك :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ يقتضي كون مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد، ومستلزم المستلزم مستلزم، فإن مشيئة الله - تعالى - مستلزمة لفعل العبد، وذلك هو الجبر، وكذا الاستدلال على الجبر بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon