﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]، لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل، ثم التقدير ما تقدم.
قال القاضي : المذكور هاهنا اتخاذ السبيل إلى الله - تعالى - وهو أمر قد شاءه؛ لأنه أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه، وهذا لا يقضي أن يقال : العبد لا يشاء إلاَّ ما قد شاء الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أن الله تعالى أراده وشاءه. وهذا الكلام لا تعلق له بالاستدلال الذي ذكرناه، فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص العام بالصُّور المتقدمة، وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث تعمّ تلك الصورة وغيرها.
قوله :﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال، أي إلاَّ في حال مشيئة الله تعالى. قاله أبو البقاء.
وفيه نظر : لأن هذا مقدر بالمعرفة إى أن يريد تفسير المعنى.
والثاني : أنه ظرف.
قال الزمخشري :« فإن قلت : ما محل أن يشاء الله؟.
قلت : النصب على الظرف، وأصله : إلا وقت مشيئة الله تعالى، وكذلك قرأ ابن مسعود : إلا ما يشاء الله، لأن »
ما « مع الفعل ك » إن « معه ».
وردّ أبو حيان : بأنه لا يقوم مقام الظرف إلاَّ المصدر الصريح، لو قلت : أجيئك أن يصيح الديك، أو ما يصيح، لم يجز. قال شهاب الدين : قد تقدم الكلام في ذلك مراراً.
وقرأ نافع والكوفيون :« تشاءون » خطاباً لسائر الخلق، أو على الالفتات من الغيبة في قوله تعالى :﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ ﴾، والباقون : بالغيبة جرياً على قوله :« خلقناهم » وما بعده.
قوله :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ ﴾ أي الطاعة والاستقامة، واتخاذ السبيل إلى الله ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ فأخبر أن الأمر إليه سبحانه، وليس لهم، وأنه لا ينفذ مشيئة أحد، ولا تقدّم إلا تقدّم مشيئة الله تعالى، قيل : إن الآية الأولى منسوخة بالثانية.
قال القرطبي : والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته.
قال الفراء :« ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أن يَشاءَ اللهُ » جواب لقوله تعالى :﴿ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم، فقال :« ومَا تَشَاءُونَ » ذلك السبيل « إلاَّ أن يشَاءَ اللهُ » لكم، ﴿ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً ﴾ بأعمالكم « حَكِيماً » في أمره ونهيه لكم.


الصفحة التالية
Icon