وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود، وهذا الخلود في حق المشركين، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجونَ من النار بعد العذاب.
وقيل : الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسَّاق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب، ولهذا قال تعالى :﴿ لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً ﴾ أي : في الأرض لتقدم ذكرها ويكون ﴿ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً ﴾ جهنم.
قوله :﴿ لاَّ يَذُوقُونَ ﴾. فيه أوجه :
أحدها : أنه مستأنف، أخبر عنهم بذلك.
الثاني : أنه حال من الضمير في « لابِثيْنَ » غير ذائقين، فهي حال متداخلة.
الثالث : أنه صفة ل « أحْقَاب ».
قال مكي : واحتمل الضمير؛ لأنه فعل فلم يجب إظهاره كأن قد جرى صفة على غير من هو له، وإنَّما جاز أن يكون نعتاً ل « أحْقَاب » لأجل الضمير العائد على « الأحقاب » في « فيها »، ولو كان في موضع « يَذُوقُونَ » اسم فاعل لكان لا بُدَّ من إظهار الضمير إذا جعلته وصفاً ل « أحقاب ».
الرابع : أنه تفسير لقوله تعالى :﴿ أَحْقَاباً ﴾ إذا جعلته منصوباً على الحال بالتأويل المتقدم عن الزمخشري، فإنه قال :« وقوله تعالى :﴿ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً ﴾. تفسير له ».
الخامس : أنه حال أخرى من « للطاغين » ك « لابثين ».
فصل في معنى هذا البرد
قال أبو عبيدة : البَرْدُ : النومُ؛ قال الشاعر :[ الطويل ]
٥٠٧٦- فَلوْ شِئْتُ حَرَّمتُ النِّساءَ سِواكُمُ | وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نِعَاجاً ولا بَرْدَا |
والعرب تقول : منع البَرْدُ البَرْدَ، يعني : أذهب النوم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : البرد برد الشراب.
وعنه - أيضاً - البرد : النَِّوم، والشراب : الماء.
قال الزجاج : لا يذوقُونَ فيها بَرْدَ ريحٍ، ولا بَرْدَ نومٍ ولا بَرْدَ ظلٍّ. فجعل البرد كل شيء له رائحة.
وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بَرداً : أي روحاً ورائحة.
قوله :﴿ إِلاَّ حَمِيماً ﴾. يجوز أن يكون استثناء متَّصلاً من قوله :« شراباً »، ويجوز أن يكون مُنْقَطِعاً.
قال الزمخشري :« يعني لا يَذُوقُون فيها برداً، ولا روحاً ينفس عنهم حر النَّار » ولا شراباً « يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميماً وغسَّاقاً ».
قال شهاب الدين :« ومكي لمَّا جعله منقطعاً جعل البرد عبارة عن النوم، قال : فإن جعلته النوم كان » إلا حميماً « استثناء ليس من الأول ».
وإنَّما الذي حمل الزمخشري على الانقطاع مع صدق الشراب على الحميم والغسَّاق، وصفة له بقوله :« ولا شراباً يسكن من عطشهم » فبهذا القيد صار الحميمُ ليس من جنس هذا الشراب؛ وإطلاق البردِ على النوم لغة هذيل، وأنشد البيت المتقدم.