والثانية : مخافة الحاجة والإملاق، وإمَّا خوفاً من السَّبْي والاسْترقَاقِ.
قال ابن عبَّاسٍ : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخّضت على رأسها فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردَّت التراب عليها، وإن ولدتْ غلاماً حبسته، ومنه قول الراجز :[ الرجز ]

٥١٢١- سَمَّيْتُهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ والقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زِمِّيتُ
وقيل : كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد إبقاء حياتها ألبسها جُبَّة من صوفٍ، أو شعرٍ، ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتُها ستة أشبار فيقول لأمّها : طيِّبيها، وزيَّنيها حتى أذهب بها إلى أقاربها [ وقد حفر لها بئراً الصحراء ]، فيذهب بها إلى البئر، فيقول لها : انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض.
وكان صعصعة بن ناجية ممن يمنع الوأد؛ فافتخر الفرزدق به في قوله :[ المتقارب ]
٥١٢٢- ومِنَّا الذي مَنَعَ الوَائِدَاتِ وأحْيَا الوَئِيدَ فَلمْ يُوأدِ

فصل


رُوَيَ « أنَّ قيس بن عاصم جاء إلى النبي ﷺ، فقال : يا رسول الله : إنِّي وأدتُ ثماني بنات كُنَّ لي في الجاهليَّة، قال رسول الله ﷺ :» فأعْتِقْ عن كُلِّ واحدةٍ منهُنَّ رقبةٌ «، قال : يا رسول الله إنِّي صاحبُ إبل، قال ﷺ :» فأهْدِ عَن كُلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ بدنَةً إنْ شِئْتَ « ».
واعلم أنَّ سؤال الموءودة سؤالُ توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب : لِمَ ضُربتَ، وما ذنْبُكَ؟.
قال الحسنُ : أراد الله توبيخ قاتلها؛ لأنها قتلت بغير ذنبٍ.
وقال أبنُ أسلمُ : بأي ذنب ضربتْ، وكانوا يضربونها.
وقيل في قوله تعالى :﴿ سُئِلَتْ ﴾ معناه : طُلبتْ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل، وهو كقوله تعالى :﴿ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً ﴾ [ الأحزاب : ١٥ ] أي : مطلوباً، فكأنها طلبت منهم، فقيل : أين أولادكم؟.
وروي عن النبي ﷺ قال :« إنَّ المَرْأةَ الَّتي تَقْتلُ ولدهَا تَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُتعلِّقٌ ولدُهَا بِثَدْيَيِْهَا، مُلطَّخاً بدمَائِهِ، فيقُولُ : يا ربِّ، هذهِ أمِّي، [ وهذه ] قَتلتْنِي ».
والأول قول الجمهور، كقوله تعالى لعيسى ابن مريم :﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين ﴾ [ المائدة : ١١٦ ]، على جهة التوبيخ، والتبكيت لهم، فكذلك سؤال الموءودة : توبيخ لوائدها وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها؛ لأن هذا مما لا يصحّ إلا بذنب، أي : فبأي ذنب كان ذلك، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها كان أعظم في البيّنة وظهور الحجة على قاتلها، وفي الآية دليل على أن الأطفال المشركين لا يعذَّبُون، وعلى أن التعذيب لا يستحقُّ إلاَّ بذنبٍ.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ ﴾.
قرأ الأخوان وابن كثير وأبو عمرو : بالتثقيل، على تكرار النشر للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع.
وقيل : لتكرير ذلك من الإنسان.
والباقون : بالتخفيف. ونافع وحفص وابن ذكوان « سُعِّرت » بالتثقيل، والباقون بالتخفيف.


الصفحة التالية
Icon