وثالثها : أنه - تعالى - هيأه للتكليف، والقيام بأداء العبادات.
قال بعضهم : خلق في أصلاب الآباء، وسوَّى في أرحام الأمهات، ومن حمله على جميع الحيوانات، فمعناه : أنه أعطى كلَّ حيوان ما يحتاج إليه من آلاتٍ، وأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية هو أنه - تعالى - قادر على كل الممكنات، علم بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالإحكام والإتقان، مبرأ عن النقص والاضطراب.
قوله :﴿ والذي قَدَّرَ فهدى ﴾ ؛ قرأ الكسائيُّ وعليٌّ - رضي الله عنه - والسلميُّ :« قدر » بتخفيف الدال، والباقون : بالتشديد.
والمعنى : قدر كل شيء بمقدار معلوم.
ومن خفف، قال القفَّال : معناه : ملك فهدى، وتأويله : انه تعالى خلق كل شيء، فسوى، وملك ما خلق، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد هذا هو الملك، فهداه لمنافعه ومصالحه.
ومنهم من قال : إنهما لغتان بمعنى واحدٍ، وعليه قوله تعالى :﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون ﴾ [ المرسلات : ٢٣ ] بالتشديد والتخفيف، وقد تقدم.

فصل في معنى الآية


قال مجاهدٌ : قدَّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، وعنه : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها.
وقيل : قدَّر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم وإن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً.
وعن ابن عبَّاسٍ والسديِّ ومقاتلٍ والكلبيِّ في قوله تعالى :« فَهدَى » : عرف خلقه كيف يأتي الذكرُ الأنثى، كما قال تعالى في سورة « طه » :﴿ أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ]، أي : الذكر للأنثى.
وقال عطاء : جعل لكل دابَّة ما يصلحها، وهداها له.
وقيل :« قدَّر فَهَدى » أي : قدّر لكل حيوانٍ ما يصلحه، فهداهُ إليه، وعرفه وجه الانتفاع به، يقال : إن الأفعى إذا أتت عليها ألفُ سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى، أن مسح العينين بورق الرازيانج الغض، يرد إليها بصرها، فربما كانت في بريَّة بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوى تلك المسافة على طولها، وعماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرَّازيانج، لا تخطئها، فتحك بها عينها، فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
[ وهدايات الإنسان إلى أن مصالحه من أغذيته وأدويته، وأمور دنياه ودينه وإلهامات البهائم والطيور، وهوام الأرض باب ثابت واسع، فسبحان ربي الأعلى ].
وقال السديُّ : قدَّر مدة الجنين في الرحم، ثم هداه إلى الخروج من الرحم.
وقال الفراء :« قدَّى فهَدى » أي : وأضل، فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ﴾ [ النحل : ٨١ ]، ويحتمل أن يكون بمعنى « دَعَا » إلى الإيمان كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] أي لتدعو وقد دعا الكل إلى الإيمان ].
وقيل :« فَهَدَى » أي : دلَّهم بأفعاله على توحيده وكونه عالماً قادراً.
واعلم أن الاستدلال بالخلق وبالهدى، هي معتمد الأنبياء.
قال إبراهيم - ﷺ - :﴿ الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾


الصفحة التالية
Icon