قال القرطبيُّ : الآيتان صفة كُلِّ كافرٍ، وكثيرٌ من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته، وفضيلته عند الله، وربما يقول بجهله : لو لم أستحق هذا، لم يعطينيه الله، وكذا إن قتر عليه، يظن أن ذلك لهوانه على الله.
قوله :« فقَدرَ عليهِ ».
قرأ ابنُ عامرٍ : بتشديد الدَّال.
والباقون : بتخفيفها، وهما لغتان بمعنى واحد، ومعناهما : التَّضييق.
قال القرطبيُّ : والاختيار : التخفيف، لقوله تعالى :﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ﴾ [ الطلاق : ٧ ] وقوله تعالى :﴿ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ ﴾ [ الرعد : ٢٦ ].
وقال أبو عمرو : و « قَدَرَ » أي : قتر. و « قَدَّرَ » مشدداً : هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال :« ربِّي أهانن ».

فصل في الكلام على أكرمن وأهانن


قوله :« أكْرمَنِي، أهانني ».
قرأ نافع : بإثبات يائهما وصلاً، وحذفهما وفقاً من غير خلاف عنه.
والمروي عن ابن كثير، وابن محيصن، ويعقوب : إثباتهما في الحالين؛ لأنهما اسم فلا تحذف.
واختلف عن أبي عمرو في الوصل : فروي عنه الإثبات والحذف، والباقون يحذفونها في الحالتين.
وعلى الحذف قوله :[ المتقارب ]
٥٢٠٤- ومِنْ كَاشحٍ ظاهرٍ عُمرهُ إذَا مَا انْتسَبْتُ لهُ أنْكَرن
يريد : أنكرني؛ ولأنها وقعت في الموضعين بغير ياء، والسنة لا تخالف خط المصحف؛ لأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال :« فأكرمه ونعمه »؟ قلت : لأن البسط : إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقدير، فليس بإهانة له؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً لعبده ومهيناً له، وغير مكرم ولا مهين، وإذا أهدى لك زيدٌ هدية، قلت : أكرمني بالهدية، ولا تقول : أهانني، ولا أكرمني إذا لم يهد لك.
وأجاب ابنُ الخطيب عن هذا السؤال : بأنه في قوله :« أكرمني » صادق، وفي قوله :« أهانني » غير صادق فهو ظهن أنَّ قلة الدنيا، وتعسرها إهانة، وهذا جهل، واعتقاد فاسد، فكيف يحكي الله - تعالى - ذلك عنه؟.
قيل : لما قال :« فَأكْرَمهُ »، فقد صحَّ أنه أكرمه، ثم إنه حكى عنه أنه قال :« أكرمن » ذمه عليه فكيف الجمع بينهما؟.
فالجواب : أن كلمة الإنكار :« كلاَّ »، فلم لا يجوز أن يقال : إنَّها مختصة بقوله تعالى :« ربي أهانن »؟.
سمنا أن الإنكار عائد إليهما معاً، لكن يمكن أن يكون الذَّم؛ لأنه اعتقد أن ذلك الإكرام بالاستحقاق، أو أنه لما لم يعترف إلا عند سعة الدنيا، مع سبق النعم عليه من الصحة، والعقل دلَّ على أن غرضه من ذلك ليس الشكر، بل محبة الدنيا والتكثير بالأموال والأولاد، أو لأن كلامه يقتضي الإعراض عن الآخرة وإنكار البعث، كما حكى الله تعالى بقوله :﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً ﴾ [ الكهف : ٣٥ ] إلى قوله :﴿ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ [ الكهف : ٣٧ ].


الصفحة التالية
Icon