الثاني من الوجهين الأولين : أن الجملة حالية، أي : لا أقسم بهذا البلد، وأنت حالٌّ بها، لعظم قدرك، أي : لا نقسم بشيء، وأنت أحق بالإقسام بك منه.
وقيل : المعنى : لا أقسم به، وأنت مستحلّ فيه، أي : مستحل إذ ذاك.

فصل في المراد بهذا البلد


أجمع المفسرون على أن ذلك البلد « مكة »، وفضلها معروف، فإنه تعالى، جعله حرماً آمناً قال تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ]، وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب، وقال تعالى :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ]، وأمر النَّاس بحجِّ البيتِ، فقال :﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وقال تعالى :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت ﴾ [ الحج : ٢٦ ]، وقال تعالى :﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ﴾ [ الحج : ٢٧ ]، وشرف مقام إبراهيم - ﷺ - بقوله تعالى :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وحرم صيده، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل، وأكثر منها، لما اجتمعت في « مكة » لا جرم أقسم الله تعالى بها.

فصل في تفسير وأنت حلّ


روى منصورٌ عن مجاهدٍ :« وأنْتَ حِلٌّ »، قال : ما صنعت فيه من شيء، فأنت في حل.
وكذا قال ابن عبَّاسٍ : أحل له يوم دخل « مكة »، أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهما، ولم يحل لأحد من الناس، أن يقتل بها أحداً بعد رسول الله ﷺ.
وقال السدي : أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ، قال : أحلت له ساعة من نهارٍ، ثم أطبقت، وحرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح « مكة ».
[ قال ابن زيد : ولم يكن بها أحد حلالاً غير النبي ﷺ وقيل : معناه : وأنت مقيم فيه، وهو محلك أي : من أهل « مكة » نشأت بينهم، ويعرفون فضلك وطهارتك لقوله تعالى :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ].
وقيل : أنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راضٍ ].
وذكر أهل اللغة أنه يقال : رجل حلٌّ وحلالٌ ومحل، ورجل حرم وحرام ومحرم.
وقال قتادة :« وأنت حل به » أي لست بآثم، قيل : معناه أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليه ارتكابه معرفة منك بحق هذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه.
وقال شرحبيل بن سعد :﴿ وأنْتَ حلٌّ بِهَذَا البَلدِ ﴾ أي : حلال، أي هم يحرمون « مكة » أن يقتلوا بها صيداً، أو يعضدوا بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلُّون إخراجك وقتلك، ففيه تعجُّب في جرأتهم وشدة عدواتهم له.


الصفحة التالية
Icon