فصل
قال ابن الأنباري : وقرأ من طعن في القرآن :« قل للذين كفروا، لا أعبد ما تعبدون » وزعم أن ذلك هو الصواب، وذلك افتراء على ربِّ العالمين، وتضعيف لمعنى هذه السورة، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين، بخطابه إياهم بهذا الخطاب المزري، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لُبّ وحجر وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى، وتزيد تأويلاً ليس في باطلهم، وتحريفهم، فمعنى قراءتنا : قل للذين كفروا، يا أيها الكافرون، دليل صحة هذا : أن العربي إذا قال لمخاطبه : قل لزيد : أقبل إلينا، فمعناه، قل لزيد يا زيد أقبل إلينا، فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم، وسقط من باطلهم أحسن لفظ، وأبلغ معنى، إذ كان الرسول - عليه السلام - يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم :« يا أيُّها الكَافِرُونَ » وهو يعرف أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفرِ، ويدخلوا في جملة أهله، إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم بدٌ، أو تقع به من جهتهم أذية، فمن لم يقرأ :﴿ قُلْ ياأيها الكافرون ﴾، كما أنزلها الله، أسقط آية لرسول الله ﷺ، وسبيل أهل الإسلام ألاَّ يسارعوا إلى مثلها، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه، التي منحه الله إياها، وشرفه بها.
فصل في الكلام على « يا »
قال ابنُ الخطيب : روي عن عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - أن « يا » نداء النفس، و « أي » نداء القلب و « ها » نداء للروح.
وقيل « يا » نداء الغائب، و « أي » للحاضر، و « ها » للتنبيه، كأنه - عزَّ وجلَّ - يقول : أدعوك ثلاثاً، ولا تجبني مرة.
قوله :﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾. في « مَا » هذه في هذه السورة وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى « الذي ».
والثانية : فالأمر فيها واضح؛ لأنها غير عقلاء. و « ما » أصلها أن تكون لغير العقلاء، وإذا أريد بها الباري - تعالى - كما في الثانية والرابعة، فاستدلّ به من جوز وقوعها على أولي العلمِ، ومن منع جعلها مصدرية، والتقدير : ولا أنتم عابدون عبادتي، أي : مثل عبادتي.
وقال أبو مسلم :« ما » في الأوليين بمعنى « الذي » والمقصود : المعبود، و « ما » في الأخريين مصدرية، أي : لا أعبد عبادتكم المبنية على الشَّك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين، فيحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال : أنها كلَّها بمعنى « الذي »، أو مصدرية، أو الأوليان بمعنى الذي، والثالثة والرابعة مصدرية، لكان حسناً، حتى لا يلزم وقوع « ما » على أولي العلم، وهو مقتضى من يمنع وقوعها على أولي العلم، كما تقدم.