قال أبو حيان بعد ما حكى عن الزمخشري ما تقدَّم :« وهذه التقادير الثلاثة متكلَّفة لا تظهر ».
وقال شهاب الدين :« وليس هنا إلا تقديران، ومفعول » يُرِيد « محذوف يدل عليه التعليل في قوله تعالى :﴿ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ والتقدير : يريد شهواته ومعاصيه فيمضي فيها دائماً أبداً و » أمامه « منصوب على الظَّرفِ، وأصله مكانٌ فاستعير هنا للزمان ».
والضمير في « أمَامَه » الظاهرُ عوده على الإنسان.
وقال ابن عباس : يعود على يوم القيامة بمعنى أنه يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث بين يدي يوم القيامة.
فصل في تفسير الآية
قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : يقول : سوف أتوب حتى يأتيه الموت على أسوأ أحواله.
وعن ابن عباس :﴿ بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾، قال : يعجل المعصية ويسوفُ بالتوبة وجاء في الحديث :« قال يقولُ : سوف أتُوبُ، ولا يتوبُ، فهُو قَدْ أخْلفَ فكذبَ ».
وقال عبد الرحمن بن زيد :﴿ بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾ من البعث والحساب ودليله : يسأل أيان يوم القيامة أي يسأل متى يكون؟ على وجه الإنكار والتكذيب.
وقال الضحاك : هو الأمل، يقول : سوف أعيش وأصيب من الدنيا، ولا يذكر الموت.
وقيل : يعزم على المعصية أبداً وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة، فالهاء على هذه الأقوال الثلاثة للإنسان.
وإذا قلنا : بأن الهاء ليوم القيامة، فالمعنى : بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي القيامة. والفجورُ : أصله الميل عن الحق.
قوله :﴿ يَسْأَلُ أَيَّانَ ﴾ هذه جملة مستأنفة.
وقال أبو البقاء رحمه الله : تفسير ل « يفجر » فيحتمل أن يكون مستأنفاً مفسّراً، وأن يكون بدلاً من الجملة قبلها؛ لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل إلا أنَّ الثاني منه رفع الفعل، ولو كان بدلاً لنصب، وقد يقال : إنه أبدلَ الجملة من الجملة لا خصوصيَّة الفعلِ من الفعل وحده، وفيه بحث قد تقدم نظيره في « الذاريات » وغيره. والمعنى : يسأل متى يوم القيامة.
فصل فيمن أنكروا البعث
قال ابن الخطيب : اعلم أنَّ إنكار البعث يتولد تارة من الشُّبهة، وأخرى من الشَّهوة، فأما تولده من الشبهة فهو ما حكاه الله - تعالى - بقوله :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾، وتقديره : أنَّ الإنسان هو هذا البدن، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه، واختلطت بأجزاء التراب، وتفرَّقت بالرِّياح في مشارق الأرض ومغاربها، فيكون تمييزها بعد ذلك محالاً.
وهذه الشبهة ساقطة من وجهين :
الأول : لا نُسلِّمُ أن الإنسان هو هذا البدن، بل هو شيء مدبرٌ لهذا البدن، فإذا فسد هذا البدن بقي هو حيّاً كما كان، وحينئذ يعيد الله - تبارك وتعالى - أي بدن أراد، فيسقط السؤال وفي الآية إشارة إلى هذا، لأنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة، ثم قال تعالى جل ذكره :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾، وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن.
الثاني : سلَّمنا أنَّ الإنسان هو هذا البدن، لكنه سبحانه عالم بالجزئيات، فيكونُ عالماً بالجزء الذي هو بدن زيدٍ، وبالجزء الذي هو بدن عمرو، وهو - تعالى - قادر على كلِّ الممكنات، فيلزم أن يكون قادراً على تركيبها ثانياً، فزال الإشكال وأما إنكار البعث بناءً على الشَّهوةِ فهو قوله تعالى :﴿ بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴾.
ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه للشَّهوات واللَّذات والفكرةُ في البعث تنغصها عليه فلا جرم ينكره.