قرأ الجمهور « صيغة » بالنصب.
وقال الطبري رحمه الله : من قرأ :« ملّةُ إبراهيم » بالرفع قرأ « صبغة » بالرفع وقد تقدم أنها قراءة ابن هرمز، وابن أبي عبلة.
فاما قراءة الجمهور ففيها أربعة أوجه :
أحدها : أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد، وهذا اختاره الزمخشري، وقال :« هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حَذَام انتهى قوله.
واختلف حينئذ عن ماذا انْتَصَبَ هذا المصدر؟
فقيل : عن قوله :»
قولوا : آمنا «.
وقيل عن قوله :»
ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «.
وقيلك عن قوله :»
فَقَد اهْتَدُوا «.
الثاني : أن انتصابها على الإغراء أي : الزموا صبغة الله.
وقال أبو حيان وهذا ينافره آخر الآية، وهو قوله :﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾ [ فإنه خبر والأمر ينافي الخبر ] إلا أن يقدر هنا قول، وهو تقدير لا حاجة إليه، ولا دليل من الكلام عليه.
الثالث : أنها بدل من »
ملة « وهذا ضعفيف؛ إذ قد وقع الفصل بينهما يجمل كثيرة.
الرابع : انتصابها بإضمار فعل أي : اتبعوا صِبْغَةَ الله، ذكر ذلك أبو البقاء مع وجه الإغراء، وهو في الحقيقة ليس زائداً فإنَّ الإغراء ايضاً هو نصب بإضمار فعل.
قال الزمخشري رحمه الله : هي أي الصبغة من »
صَبَغَ « كالجِلْسَة من » جَلَس «، وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ، والمعنى : تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النُّفُوس.

فصل في الكلام على الصّبغ


الصّبغ ما يلون به الثياب ويقال : صبغ الثوب يصبغُهُ بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها.
و »
الصِّبْغة « فعلة من صبغ كالجِلْسَة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ.
ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال :
الأول : أنه دين الله، وذكروا في تسمية دين الله بالصبغة وجوهاً.
أحدها : أن بعض لنصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون : هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال : الآن صار نصرانياً فأمر المسملون أن يقولوا : آمنا وصبغنا الله صِبْغة لا مثل صِبْغتكم، وإنما جيء بفلظ الصِّبغة على طريق المُشَاكلة كما توقول لمن يغرس الأشجار :[ اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً يصطنع الكرم.
والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المُشَاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم ] : اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً مواظباً على الكرم.
ونظيره قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٤١٥ ]، ﴿ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]، ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ]، ﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]، ﴿ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ﴾ [ هود : ٣٨ ].
وثانيها : اليهود تصبغ أولادها يهوداً، والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم، فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قُلُوبهم.


الصفحة التالية
Icon