وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً، [ وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال.
وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً ] من مقدمه.
وقال الواقدي : صرفت القِبْلَة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً.
وقال آخرون : بل سنتان.
القول الثاني : قول أبي مسلم وهو أنه لما صح الخبرُ بأن الله - تعالى - حوّلها إلى الكعبة وجب القول به، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله :﴿ كَانُوا عَلَيْهَا ﴾، أي : السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قِبْلَة اليهود والنصارى، فقبلة اليهود إلى العرب؛ لأن النداء لموسى ﷺ جاء فيه وهو قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي ﴾ [ القصص : ٤٤ ]، ولأنه مكان غروب الشمس والكواكب، وذلك شبه الخروج من الدنيا والعبور إلى الآخرة، وهو وقت هُمُود الناس الذي هو الموت الأصغر، واستقبلوا المغرب لشبهه بوقت القدوم على الله تعالى، والنَّصَارى إلى المشرق؛ لأن جبريل - ﷺ - إنما ذهب إلى مريم في جانب المَشرق، لقوله تعالى :﴿ إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ﴾ [ مريم : ١٦ ] ؛ لأن المشرق مكان إشراق الأنوار، ومنه تشرق الكواكب بأنوارها، فهو مشتبه بحياة العالم فاستقبلوه؛ لأن منه مبتدأ حياة العالم، والعرب ما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجّهوا إلى شيء من الجهات، فلما رأوا رسول الله ﷺ متوجهاً إلى الكعبة استنكروا ذلك، فقالوا : كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين، فقال تبارك وتعالى رداً عليهم :﴿ قُلْ : لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ ﴾.
قال ابن الخطيب :« ولولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم ».
فصل في تحرير معنى القبلة
القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة، وإنما سميت القبلة قبلةً؛ لأن المصلي يقابلها وتقابله.
وقال قطرب : يقولون في كلامهم : ليس لفلان قبلة أي : ليس له جهة يأوي إليها، وهو أيضاً مأخوذ من الاستقبال.
وقال غيره : إذ تقابل الرجلان، فكلّ واحد منهما قبلة للآخر. [ قال القرطبي : وجمع القبلة في التكسير قبل، وفي التسليم قبلات، ويجوز أن يبدل من الكسرة فتحة، وتقول : قبلات، ويجوز أن تحذف الكسرة، وتسكن الباء ].
فصل في بعض شبه اليهود والنصارى
قال ابن الخطيب : هذه شبهة من شبه اليهود والنصارى التي طعنوا بها في الإسلام، فقالوا : النسخ يقتضي : إما الجهل أو التجهيل، وكلاهما لا يليق بالحكيم، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القَيْدِ، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام [ وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام، فإن كان خالياً عن القيد لم يقتضِ الفعل إلا مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً له، وإن كان مقيداً بقيد الدوام، فإن كان الأمر يعتقد فيه أن يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على ] أنه يبقى دائماً، ثم إنه رفعه بعد ذلك، فها هنا كان جاهلاً، ثم بدا له ذلك، [ وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على أن يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً ] فثبت أن النسخ يقتضي : إما الجهل أو التجهيل، وهما مُحَالان على الله تعالى، فكان النسخ منه محالاً، [ فالآتي بالنَّسْخ في أحكام الله - تعالى - يجب أن يكون مبطلاً ]، فبهذا الطريق توصّلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة، فقالوا : إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح، وهنا الجهات متساوية في أنها لله - تعالى - ومخلوقة له وتغيير القبلة من [ جانب إلى ] جانب فعل خالٍ عن المصلحة فيكون عبثاً، والعَبَثُ لا يليق بالحكيم، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى، وقد أجاب الله - تعالى - على هذه الشبهة بقوله تعالى :﴿ قُلْ لِلَّهِ المَشْرِق وَالمَغْرِبُ ﴾.