﴿ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ البقرة : ١٤٢ ].
وقد بيذنا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه - تعالى - يخص البعض بالهداية دون البعض، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منها مؤكدة لمضمون الأخرى.
والثالث : أن كلّ ما في مقدور الله - تعالى - من الألطاف في حقّ الكل فقد فعله، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة.
فصل في الاستدلال بالآية على أن الإجماع عجّة
احتج الجمهور بهذه الآية على أن الإجماع حجة فقالوا : أخبر الله - تعالى - عن عدالة هذه الأمة، وعن خيريتهم، فلو أقدموا على شيء من المَحْظُورات لما اتّصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المَحْظُورات وجب أن يكون قولهم حجّة، فإن قيل : الآية متروكة الظاهر؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتِّصَاف كل واحد منهم بها، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة، فلا بد من حملها على البعض، فنحن نحملها على الائمة المعصومين.
فالجواب : أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره، والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين :
الأول : أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات، واجتناب المحرمات، وهذا من فعل العبد، وقد أخبر الله - تعالى - أنه جعلهم وسطاً، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً، وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال.
الثاني : أن الوَسَط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك، وهو خلاف الأصل.
سلّمنا اتصافهم بالخيرية، وذلك لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجتمعوا عليه وإن كان خطأ، لكنه من الصَّغائر، فلا يقدح ذلك في خيريتهم، ومما يؤكّد ذلك الاحتمال أنه - تعالى - حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة.
سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر، ولكن الله - تعالى - بيّن وصفهم بذلك لكونهم شهداء على النَّاس، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك، لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمّثلن وذلك لا نزاع فيه؛ لأن الأمة تصير عصومة في الآخرة.
فلم قلت : إنهم في الدنيا كذلك؟
سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا، لكن المخاطبين بهذا الخطاب [ هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية، لأن الخطاب ] مع مَنْ لم يوجد مُحَال، وإذا كان كذلك، فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت لا عدالة غيرهم، فدلّت الآية على أن إجماع [ أولئك } حق، يجب ألاَّ نتمسّك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه.