لكن ذلك لا يمكن [ إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم، وعلمنا بقاء كل واحد ] منهم إلى ما بعد وفاة محمد ﷺ وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع، ولما كان ذلك كالمتعذّر امتنع التمسّك بالإجماع.
والجواب عن قولهم : الآية متروكة الظاهر.
قلنا : لا نُسلّم فإن قوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ يقتضي أنه - تعالى - جعل كلّ واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة.
وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه، فإنّ كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر، بل إذا اختلفوا، فعند ذلك قد يفعلون القبيح، وإنما قلنا : إن هذا الخطاب معهم حال الاجتماع، لأن قوله :« جَعَلْنَاكُمْ » خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده، على أنا وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد فيهم عدلاً، لكنا نقول ترك العمل به في حقّ البعض لدليل قام عليه، فوجب أن يبقى معمولاً به في حقّ الباقي، وهذا معنى ما قاله العلماء : ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة، فإذا كُنَّا لا نعلمهم بأعيانهم افتقرنا إلى إجماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم.
مثاله : أن الرسول - ﷺ - إذا قال : إن واحداً من أولاد فلان لا بد وأن يكون مصيباً في الرأي، فإذا لم نعلمه بعينه، ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقّاً؛ لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق.
فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقّاً، لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد المخالف.
ولهذا قال العلماء : إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة [ بقول المخطئ.
قوله : لو كان المراد من كونهم وسطاً هو عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى.
قلنا : هذا مذهبنا. فإن قيل ] قولهم : لم قلتم : إن إخبار الله - تعالى - عن عَدَالتهم وخيريّتهم اجتنابهم عن الصغائر؟
قلنا : خبر الله - تعالى - صدق، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه، وفعل الصغيرة ليس بخبر، فالجمع بينهما متناقض.
ولقائل أن يقول : الإخبار عن الشَّخْص بأنه خير أهم من [ الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور، أو في بعض الأمور، ولذلك فإنه يصحّ تقسيمه إلى ] هذين القسمين، فيقال : الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض، أو في كل الأمور، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فمن كان خيراً من بعض الوجود دون البعض يصدق عليه أنه خير، فإذن إخبار الله - تعالى - عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره - تعالى - عن خيريتهم في كل الأمور، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر، [ وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلاَّ أن هذا السؤال وارد عليهم، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الية، ومن جاء بعدهم إلى [ قيام الساعة ]، كما أن قوله


الصفحة التالية
Icon