﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص ﴾ [ البقرة : ١٧٨ ]، ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ] يتناول الكل، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، [ وكذلك سائر تكاليف الله - تعالى - وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة ] فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة، فإنما حكم جماعتهم بالعدالة، فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجّة على من بعدهم؟
قلنا : لأنه - تعالى - لما جعلهم شهداء على الإنسان فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة، إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه.
فعلمنا أن المراد به أهل كلّ عصر، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة، فإن الأمة الجماعة التي تؤمّ جهة واحدة، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك، ولأنه - تعالى - قال :« أُمَّةً وَسَطاً » فعبر عنهم بلفظ النكرة، ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر.
[ قال النووي - رحمه الله تعالى - في « التهذيب » : الأُمّة تطلق على معانٍ :
منها من صدق النبي ﷺ وآمن بما جاءه، واتبعه فيه، وهذا هو الذي جاء مَدْحه في الكتاب والسُّنة كقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ و ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ].
وقوله صلوات الله وسلام عليه :« شَفَاعَتِي لأُمَّتِي » و « تَأْتِي أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ » وغير ذلك.
ومنها من بعث إليهم النبي - صلوات الله وسلامه عليه - من مسلم وكافر.
ومنه قوله عليه أفضل الصلاة والسلام :« وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ لاَ يَسْمَعُ بي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثم يموت وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلَتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ » رواه مسلم.
ويأتي باقي الكلام عن الأمة في آخر « النحل » إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [ النحل : ١٢٠ ] إلى قوله :﴿ كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ].
فصل في الكلام على قوله : لتكونوا
قوله تعالى :« لِتَكُونُوا » يجوز في هذه اللام وجهانِ :
أحدهما : أن تكون لام « كي » فتفيد العلة.