وإنما قلنا : إنه - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا؛ لأنه - تعالى - [ قال :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَةً وَسطاً ﴾ وهذا إخبار عن الماضي، فلا أقل من حصوله في الحال، وإنما قلنا : إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا؛ لأنه تعالى ] قال :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط، فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا [ وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا ].
وفإن قيل : تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة.
قلنا : الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل، بدليل أنه - تعالى - اعتبر العدالة في هذه الشهادة، والشهادة التي تعتبر فيها العدالة، هي الأداء لا التحمّل، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدّين للشهادة في الدنيا، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجّة، ولا معنى لقولنا : الإجماع حجة إلا هذا، فثبت أن الآية تدلّ على أن الإجماع حجّة [ من هذا الوجه أيضاً ].
واعلم أن هذا الدليل لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به، ويؤيد ذلك قوله تعالى :﴿ وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ يعني مؤدياً ومبيناً، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشَّهادة في الآخرة، فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمّل، لأنهم إذا أثبتوا الحقّ عرفوا عنده من [ القابل ومن الراد ]، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة [ على أن الشَّاهد على العقود يعرف الذي تم، والذي لم يتم، ثم يشهدون بذلك عند الحاكم.
قال القرطبي رحمه الله : معنى قوله تعالى :﴿ وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ أي : بأعمالكم يوم القيامة
وقيل :« عليكم » بمعنى لكم أي : يشهد لكم بالإيمان.
وقيل : يشهد عليكم بالتبليغ لكم ].
وقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ... ﴾ في هذه الآية خمسة أوجه :
أحدها : أن « القبلة » مفعول أول، و « التي كنت عليها » مفعول ثان، فإن الجعل بمعنى التصيير، وهذا ما جزم به الزّمخشري فإنه قال :﴿ التي كُنتَ عَلَيْهَآ ﴾ ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعوليْ جعل، يريد : وما جعلنا القِبْلَةَ الجهة التي كنت عليها، وهي الكَعْبَة؛ لأنه ﷺ كان يصلي ب « مكة » إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس، ثم حول إلى الكعبة.
الثاني : أن « القِبْلَة » هي المفعول الثاني، وإنما قدم، و « التي كنت عليها » هو الأول، وهذا ما اختاره الشيخ محتجّاً له بأن التصيير هو الانتقال من حَالٍ إلى حَالٍ، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفاً، وجعلت الجاهل عالماً، والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا القِبْلَة الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً، ثم صرفت عنها إلى « بيت المقدس » قبلتك الآن إلا لنعلم.