﴿ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ [ النساء : ١٥٨ ] فلا يمتنع أن يراد بقوله :﴿ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ ﴾ أي : التي لم تزل عليها، وهي الكعبة إلاَّ كذا وكذا.
قوله :« إلاَّ لِنَعْلَمَ » قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولاً ثانياً.
وأما على غيره فهو استثناء مفرّغ من المفعول العام، أي : ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلاَّ لكذا. وقوله :« لِنَعْلَمَ » ليس على ظاهره، فإن علمه قديم، ونظره في الإشكال قوله :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين ﴾ [ محمد : ٣١ ].
وقوله :﴿ ١٦٤٩; لآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ]، وقوله :﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى ﴾ [ طه : ٤٢ ]، وقوله :﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ ﴾ [ العنكبوت : ٣ ].
وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة ﴾ [ سبأ : ٢١ ]، فلا بد من التأويل وهو من أوجه :
أحدها : لتمييز التابع من النَّاكص إطلاقاً للسبب، وإرادة للمسبّب.
وقيل : على حذف مضاف أي : لنعلم رسولنا فحذف، كما يقول الملك : فتحنا البَلْدة الفلانية بمعنى : فتحها أولياؤنا.
ومنه يقال : فتح عمر السّواد.
ومنه قوله ﷺ فيما يحكيه عن ربه :« اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي يقول : وادهراه وأنا الدهر »
وفي الحديث :« مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّا فَقَدْ أَهَانَنِي »
وقيل : معناه : إلا لنرى.
فصل
قال القرطبي رحمه الله : وهذا قول ابن أبي طالب وقول العرب، تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل ﴾ [ الفيل : ١ ] بمعنى ألم تعلم، وعلمت، وشهدت، ورأيت، ألفاظ تتعاقب.
وقيل : حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين، معناه : لتعلموا.
والغرض من هذا الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله :﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى ﴾ [ سبأ : ٢٤ ] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب، ورفقاً بالمخاطب.
وقيل : يعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم.
وقيل : العلم صلة زائدة معناه إلاَّ ليحصل اتباع المتبعين، وانقلاب المنقلبين.
ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني، والمعنى : أنه لو كان لعلمه الله.
قوله :﴿ مَنْ يَتَّبع ﴾ في « من » وجهان :
أحدهما : أنها موصولة، و « يتبع » صلتها، والموصول في محلّ المفعول ل « نعلم » ؛ لأنه يتعدّى إلى واحد.
والثاني : أنها استفهامية في محلّ رفع بالابتداء، و « يتبع » خبره، والجملة في محلّ نصب؛ لأنها معلقة للعلم، والعلم على بابه، وإليه نحا الزَّمخشري في أحد قوليه.
وقد رد أبو البقاء هذا الوجه، فقال : لأن ذلك يوجب تعلّق « نعلم » عن العمل، وإذا علقت عنه لم يبق ل « من » ما تتعلّق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله، ولا يصحّ تعلها ب « يتبع » ؛ لأنها في المعنى متعلّقة بلا علامة، وليس المعنى : أي فريق يتبع ممن ينقلب انتهى.