وهو رد واضح إذ ليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على أن يتعلق « مِمَّنْ يَنْقَلِبُ » ب « نعلم » نحو : علمت من أحسن إليك مِمّن أساء، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز، فإن العلم لا يتعدى ب « من » إلا إذا أريد به التمييز.
ورأ الزهري :« إلاَّ لِيُعْلم » على البناء للمفعول، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل، لأنا لا نقدر ذلك الفاعل غير الله تعالى.
قوله :« عَلَى عَقِبَيْهِ » في محلّ نصب على الحال، أي ينقلب مرتدّاً راجعاً على عقبيه، وهذا مجاز، [ ووجه الاستعارة أن : المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلما تركوا الإيمان والدلائل بمنزلة المدبر عما بين يديه، فوصفوا بذلك لما قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر ﴾ [ المدثر : ٢٣ ] وقوله تعالى :﴿ كَذَّبَ وتولى ﴾ [ طه : ٤٨ ].
وقرئ « عَلَى عَقْبَيْهِ » بسكون القاف، وهي لغة « تميم ».
فصل
اختلفوا في هذه المحنة، هل حصلت بسبب تعيين القبلة، أو بسبب تحويلها؟ فقال بعضهم : إنما حصلت بسبب تعيين القبلة؛ لأنه - ﷺ - كان يصلّي غلى الكعبة، فلما جاء « المدينة » صلى إلى « بيت المقدس »، فشق ذلك على العرب لترك قبلتهم.
قال القرطبي رحمه الله : والآية جوا لقريش في قولهم :﴿ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾ [ البقرة : ١٤٢ ] وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله - تعالى - أن يمتحنهم بغير ما ألفوه.
وقال الأكثرون : حصلت بسبب التحويل قالوا : إن محمداً ﷺ لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه.
روى القَفَّال عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلموا، فقالوا : مرة ههنا ومرة ههنا.
وقال السدي رحمه الله تعالى : لما توجه النبي - ﷺ - نحو المسجد الحرام واختلف الناس، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟
وقال المسلمون : ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس.
وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده.
وقال المشركون : تحيّر في دينه.
قال ابن الخطيب : وهذا القول أولى؛ لأن الشبهة في أمر النَّسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة [ وقد وصفها الله - تعالى - بالكبر فقال تعالى :﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله ﴾ فكان حمله عليه أولى ].
قوله :« وإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً » « إنْ » هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر، وهو أغلب أحوالها، و « اللام » للفرق بينها وبين « إن » النافية، وهل هي لام الابتداء، أو لام أخرى أتى بها للفرق؟ خلاف مشهور.