قال العلماء : هذه الآيةُ متقدِّمةٌ في النزول على قَوْلِهِ تَعَالى :﴿ سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
ومَعْنَى « » : تحرُك وَجْهِكَ إلى السَّمَاءِ.
اعلم أنَّ « قَدْ » هذه قال فيها بعضُهم : إنها تَصْرفُ المضارعَ إلى مَعْنى المُضِيّ، وجَعَلَ مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها، وقوْلَ الشاعِرِ :[ الطويل ]
٨٢٩ - لِقَوْمٍ لَعَمْرِي قَدْ نَرَى أَمْسِ فِيهُمُ | مَرَابِطَ للأَمْهَارِ وَالعَكَرِ الدَّثِرْ |
٨٣٠ - قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُضفَرّاً أَنَامِلُهُ | كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفُرْصَادِ |
ثُمَّ قال :« ومعناه كثرةُ الرُّؤْيةِ » فهو مضادٌّ لمدلولِ « رُبّ » على مذهب الجمهور.
ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم توضع للكثرة « قد » مع المضارع، سواء أريد به المضي أم لا، وإنَّما فُهِمَتِ الكَثْرة من متعلّق الرؤية، وهو التقلب.
قوله :« في السَّمَاءِ » في متعلّق الجار ثلاثةُ أَقْوالٍ :
أحدهما : أنه المصدرُ، وهو « تَقَلُّب »، وفي « في » حينئذٍ وَجْهَان :
أحدهما : أنها على بَابِهَا من الظرفية، وهو الواضِحُ.
والثَّاني : أنها بمعنى « إلَى » أي : إلى السَّمَاءِ ولا حاجةَ لذلك، فإنَّ هذا المصْدَرَ قد ثَبَت تعديه ب « في »، قال تعالى :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٦ ].
والثاني من الأقوال : أنه « نَرَى »، وحينئذٍ تَكُون « فِي » بمعنى « مِنْ » أي : قد نرى من السَّماءِ، وذِكْرُ السماءِ وإن كان تَعَالى لا يتحيّز في جِهَةٍ على سَبيل التشريفِ.
والثالث : أنه محل نَصْب على الحَال من « وَجْهِكَ » ذكره أَبُوا البَقَاءِ، فيتعلّق حينئذ بمحذُوفٍ، والمصدرُ هنا مضافٌ على فَاعِله، ولا يجوزُ أنْ يكُونَ مُضَافاً إلى مَنْصُوبه؛ لأنه مصدرُ ذلك التقلِيبِ، ولا حَاجَةَ إلى حَذْفٍ، ومِنْ قَوْلِه :« وَجْهَكَ » وهو بَصَر وَجْهِك، لأن ذلك لا يكاد يستعمل، بل ذكر الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء، وهو الذي يقبله السَّائل في حاجته، وقيل : كنى بالوجه عن البصر؛ لأنه محلّه.
قوله :﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً ﴾ « الفَاء » هنا للِتَّسَبُّب وهو وَاضِحٌ، وهذا جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ، أيْ : فواله لنولّينَّكَ، و « نُولِّي » يتعدّى لاثْنين : الأولُ الكَافُ، والثَّانِي « قِبْلَةُ » و « تَرْضَاهَا » الجملة في محلّ نَصْبٍ صفةً ل « قبلة ».
قال أَبُو حَيَّان : وهذا؛ يعني :« فَلَنولّينك » يدلّ على أن الجملةَ السابقةَ محذوفة تقديرهُ : قَدْ نَرَى تقلّ وَجْهِكَ في السَّماء طَالِباً قبلة غير التي أَنْت مُسْتقبلها.