فصل في الكلام على الآية


في الآية قَوْلاَنِ :
القولُ الأولُ : وهو المشهورُ الذي عليه أَكْثر المُفَسِّرين أن ذلك كان لانتظارِ تَحْوِيله من « بيتِ المقْدِس » إلى الكَعْبة، وذكروا في ذلك وجوهاً :
أحدها : أنه كان يكره التوجّه إلى بيت المقْدِس، ويحبّ التوجّه إلى الكَعْبة، إلاّ أنه ما كان يتلكَّم بذلك، فكان يقلّب وجْهَهُ في السَّماء لهذا المعنى.
رُوي عن عباس أنه [ ﷺ ] قال :« يَا جِبريلُ وَدِدْتُ أنَّ اللَّهَ - تَعَالى - صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُود، إلَى عَيْنِهَا فَقَدْ كَرِهْتُهَا »
فقال جبريلُ ﷺ « أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَاسْأَلْ ربَّكَ ذَلِكَ ».
فجَعَلَ رسولُ الله ﷺ يُدِيمُ النَّظرَ إلى السماء؛ رجاء مجيء جِبْرِيلَ بما سأَلَ، فأَنْزل الله تعالى هذه الآية، وهؤلاءِ ذكروا في سببِ هذه المِحْنة أموراً :
الأولُ : أنَّ اليَهُودَ كانوا يَقُولُونَ : إنه يُخَالِفُنَا، ثم إنه يتبع قِبْلَتَنَا، ولولا نحْنُ لم يدر أَيْن يستقبل. فعند ذلك كَرِهَ أن يتوجّه إلى قِبْلتهم.
الثَّاني : أنَّ الكَعْبة كانتِ قِبْلة إبْراهيم ﷺ.
[ الثَّالث : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - كان يقدِّرُ أن يَصِير ذلك سبباً لاسْتمالة العرب، ولدخولهم في الإسلامِ.
الرَّابع : أنه - ﷺ - أَحَبَّ ] أن يحصل هذا الشرفُ للمسجدِ الذي في بلْدَتِهِ ومَنْشَئه لا في مسجدٍ آخر.
واعترض القَاضِي على هذا الوجْهِ، وقال : إنه لا يَلِيقُ به - ﷺ - أن يكره قِبْلَةً أُمِرَ أَنْ يُصَلِّي إليها، ويحبّ أن يحوله ربُّه عنها إلى قِبْلَةٍ يَهْوَاها بطبْعِه، ويميلُ إِلَيْها بحسب شَهْوتِه؛ لأنه - ﷺ - علم أنَّ الصَّلاحَ في خلاف الطَّبْعِ والمَيْلِ.
قال ابنُ الخَطِيب : وهذا قليلُ التحْصِيل؛ لأنَّ المُسْتنكَرَ من الرسول - ﷺ - أن يعرض عما أمره الله - تعالى - به، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه.
فأما أن يميل قلبه إلى شيء، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، فذلك مما لا إنكار عليه، لا سيما إذا لم ينطق به، [ أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه ].
الوجهُ الثاني : أنه - عليه الصلاةُ والسلامُ - قد استأذَنَ جبريل - عليه السلام - في أن يدعو الله - تعالى - بذلك، فأخبره جبريل - ﷺ - بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه، لئلا يسألون ما لا صَلاَحَ فيهن فلا يجابوا إليه، فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم، فلما أذن الله - تعالى - له في الإجابة، علم أنه يستجاب إليه، فكان يقلّب وجهه في السَّماء ينتظر مجيء جبريل - عليه السلام - بالوَحْيِ في الإجابة.


الصفحة التالية
Icon