واختلفوا في توجه النبي ﷺ ] إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره، أو كان مخيراً في التوجه إليه وإلى غيره، فقال الربيع بن أنس : قد كان مخيراً في ذلك. وقال ابن عباس : كان التوجه إليه فرضاً.
وعلى كلا الوجهين صار منسوخاً، واحتج الأولون بالقرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى :﴿ وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ].
وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء.
وأما الخبر فما روى أبو بكر الرّازي في كتاب « أحكام القرآن » : أن نَفَراً قصدوا الرسول - ﷺ - من « المدينة » إلى « مكة » للبيعة قبل الهِجْرَةِ، وكان فيها البراء بن معرور، فتوجّه بصلاته إلى الكعبة في طريقه، وأبى الآخرو، وقالوا : إنه - ﷺ - يتوجّه إلى بيت المقدس، فلما قدموا « مكة » سألوا النبي ﷺ، فقال له : قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثَبَتَّ عليها أجزأك، ولم يأمره باستئناف الصلاة، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين.
واحتجّ الذاهبون إلى القول الثَّاني بأنه - تعالى - قال :﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ فدلّ على أنه - عليه السلام - ما كان يرتضي القبلة الأولى، فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجّه إليها، فحيث توجّه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكَعْبة.
فصل في نسخ التوجه إلى بيت المقدس
المشهور أن التوجّه إلى « بيت المقدس » إنما صار منسوخاً [ بالأمر بالتوجّه إلى الكعبة.
ومن الناس من قال : التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى :﴿ وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ] ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾.
واحتجوا عليه بالقرآن والأثر.
أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله :﴿ وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ ] ثم ذكر بعده :﴿ سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾ [ البقرة : ١٤٢ ] ثم ذكر بعده :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾.
وهذا الترتيب يقتضي صحّة المذهب الذي قلناه بأن التوجذه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾.
فلزم أن يكون قوله تعالى :﴿ سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس ﴾ [ متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل، فثبت ما قلناه.
وأما الأثر فما ] روي عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القُرْآن، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن، إنما المذكور في القرآن ﴿ وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ فوجب أن يكون قوله :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ ناسخاً لذلك، لا للأمر بالتوجذه إلى « بيت المقدس ».