قوله :« فَلَنُوَلِّيَنَكَ » : فلنعطينّك ولنمكننّك من استقبالها من قولك : ولّيته كذا، إذ جعلته والياً له، أو فلنجعلنّك تَلِي سَمْتها دون سَمْت بيت المقدس.
قوله :« تَرْضَاهَا » فيه وجوه :
أحدها : ترضاها : تحبّها وتميل إليها؛ لأن الكعبة كانت أحبّ غليه من غيرها بحسب ميل الطبع، وتقدم كلام القاضي عليه وجوابه.
وثانيها :« قِبْلَةً تَرْضَاهَا » أي : تحبها بسبب اشتمالها على المَصَالح الدينة.
وثالثها : قال الأصم : أي : كل جهة وجّهك الله إليهان فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقبيه من العرب الذين كانوا قد أسلموا، فلما تحولت القبلة ارتدوا.
ورابعها :« تَرْضَاهَا » أي : ترضى عاقبتها؛ لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام، مما يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها، أو مال يكتسبه.
قوله :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ « ولّى » يتعدى لاثنين :
أحدهما :« وجهك ».
والثاني :« شطر ».
ويجوز أن ينتصب « شَطْرَ » على الظرف المكاني، فيتعدى الفعل لواحد، وهو قول النحاس، ولم يذكر الزمخشري غيره.
والأول : أوضح، وقد يتعدى إلى ثانيهما ب « إلى ». [ والمراد من الوجه ها هنا جملة بدن الإنسان؛ لان الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط، والوجه قد يُراد به العضو، وقد يعبر عن كل الذات بالوجه.
قال أهل اللغة :« الشطر » اسم مشترك يقع على معنيين.
أحدهما : النصف من الشيء والجزء منه، يقال : شطرت الشيء، أي : جعلته نصفين، ويقال في المَثَل : اجلب جلباً لك شطره، أي : نصفه.
ومنه الحديث :« الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ »
وتكون من الأضداد.
ويقال : شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر من كذا إذا ابتعد عنه وأعرض، ويكون بمعنى الجهة والنحو، واستشهد الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب « الرسالة » في هذا لأربعة أبيات ] قال :[ الوافر ]

٨٣١ - أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولاً وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو
وقال :[ الوافر ]
٨٣٢ - أَقُولُ لأُمِّ زِنْبَاعِ أَقِيمِي صُدُورُ العِيْسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ
وقال :[ البسيط ]
٨٣٣ - وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمْ قِطَعَا
وقال ابْنُ أَحْمَر :[ البسيط ]
٨٣٤ - تَعْدُو بِنَا شَطْرَ نَجْدٍ وَهْيَ عَاقِدَةٌ قَدْ قَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفادِهَا الحُقبَا
وقال :[ المتقارب ]
٨٣٥ - وَأَظْعَنُ بِالرُّمْحِ شَطْرَ المُلُو كِ....................
وقال :[ البسيط ]
٨٣٦ - إِنَّ العَسِيرَ بِهَا دَاءٌ يُخَامِرُوهَا وَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ
كل ذلك بمعنى :« نحو » و « تلقاء » [ فعلى هذا المراد الجهة، وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين، واختار الشافعي - رضي الله عنه - أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه.


الصفحة التالية
Icon