وروى أنس عن زيد بن ثابت قال : تسحَّرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس : قلت لزيد كم كان قدر ذلك؟ قال : قدر خمسين آية، وهذا يدلّ أيضاً لى التَّغْليس، وروي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله ﷺ غَلَّسَ بالصبح، ثم أسفر مرة، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى.
وأيضاً فإن النوم في ذلك الوقت أَطْيب، فيكون تركه أشقّ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لقوله عليه السلام :« أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا » أي : أشقّها.
واحتج أبو حنيفة بوجوه :
أحدها : قوله عليه السلام :« أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ »
وروى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر ب « المزدلفة » فغلس، ثم قال ابن مسعود : ما رأيت رسول الله ﷺ صلاة إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر.
ويروى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه صلى الفجر، فقرأ « آل عمران »، فقالوا : كادت الشمس أن تطلع، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وأيضاً فإن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار.
وقال عليه السلام :« المُنْتَظِرُ لِلصَّلاةِ كَمَنْ هُوَ في الصَّلاَةِ »، فمن [ أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً، ثم بها ثانياً ]، ومن صلاّها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار.
وأيضاً : فإن التنوير يفضي إلى كثرة الجماعة فيكون أَوْلى.
والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي [ يتفجر به ظلام ] المشرق، فالفجر إنما يكون ضجْراً لوكانت الظلمة باقية في الهواء.
فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً.
وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور، يقال : أسفرت المرأة عن وجهها إذا [ كشفت عنه ]، إذا ثبت هذا فنقول : ظهر الفَجْر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء، فإن الظالم كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد.
فقوله :« أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ » يجب أن يكون محمولاً على التَّغْليس، أي : كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر [ أظهر كان ] أكثر ثواباً.
وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر، وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه عنه : إن الإسفار المذكور في الحديث مَحْمُول على تيقُّن طلوع الفجر، وزوال الشك عنه، والذي يدل على ما قلنا : أن الصلاة في ذلك الوقت أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً.
وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير، فهو عادة أهل الكسل، وهذا جواب عن قول ابن مسعود أيضاً وأما باقي الوجوه فمعارض لبعض ما قدمناه.