قوله تعالى :« وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ » هذا جواب قسم محذوف، ومتى كان جوابه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً، وجب تلقيه باللام وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما، ولا يُجيز البصريون ذلك إلا في الضرورة، وفتح الفعل المضارع لاتصاله بالنون، وقد تقدم تحقق ذلك وما فيه من الخلاف.
[ قال القُرْطِبيُّ : وهذه « الوَاوُ » مفتوحَةٌ عِنْد سِيبَوَيْه؛ لالتِقَاءِ السّاكِنَين. وقال غيرُه : لَمَّا ضُمَّتَا إلى النُّونِ الثَّقِيلَةِ بُنِيَ الفِعْلُ مُضَارِعاً بمنزِلَةِ عَشَر، والبَلاَءُ يَكُون حَسَناً وَيَكُونُ سَيِّئاً، وأَصْلَهُ : المِحْنَةُ، وقدم تقدَّمَ ].
قوله تعالى :« بِشَيء » متعلق بقوله :« وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ » و « الباء » معناها الإلصاق، وقراءة الجمهور على إفراد « شيء »، ومعناها الدلالة على التقليل؛ إذ لوجمعه لاحتمل أن يكون ضرباً من كل واحد.
وقرأ الضحاك بن مزاحم :« بأشياء » على الجمع.
وقراءة الجمهول لا بد فيها من حذف تقديره : وبشيء من الجوع؛ وبشيء من النقص.
وأما قراءة الضحاك فلا تحتاج إلى هذا.
وقوله :« مِنَ الْخَوْفِ » في مَحَلّ جَرِّ صفة لشيء، فيتعلّق بمحذوف.
فصل في أقسام ما يلاقيه الإنسان من المكاره
أعْلَم أَنَّ كلّ ما يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب، فينقسم إلى موجود في الحال، وإلى ما كان موجوداً في الماضي، وإلى ما سَيُوجَدُ في المُسْتَقْبل.
فإذا خَطَر بالبالِ [ وجود شيء ] فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً، وإن كان مَوْجُوداً في الحَال يُسَمى ذوقاً ووجداً، وإنما سمي وَجْداً؛ لأنها حالةٌ تجدها مِنْ نَفْسِك.
وإن خطر بالبالِ وُجُودُ شَيْءٍ في الاستقبال وغلب ذلك على القَلْبِ سُمِّيً انتظاراً وتوقّعاً.
فإن كان المنتظر مكروهاً يحصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً في القلب.
فصل في الفرق بين الخوْف والجُوع والنَّقْص
قال ابنُ عباسٍ رَضي الله عنهما : الخوفُ خوفُ العَدُوِّ والجُوع القَحْط، والنقصُ مِنَ الأَمْوَالِ بالخُسْرَانِ والهَلاَكِ والأنفس بمعنى القتل.
وقيل : بالمرض والسبي.
وقال القفال رحمه الله : أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدّين، فكانوا لا يؤمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم، وقد كان من الخوف وقعة « الأحزاب » ما كان، قال الله تعالى :﴿ هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾ [ الأحزاب : ١١ ].
وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي - ﷺ - إلى « المدينة » لقلّة أموالهم، حتى أنه ﷺ [ كان يشدّ الحجر على بطنه.
وروى أبو الهيثم من التّيهان أنه - عليه السلام ] - لما خرج التقى بأبي بكر قال مَا أَخْرَجَكَ؟ قال : الجُوعُ، قال : أَخْرَجَنِي مَا أَخْرَجَكَ [ وأما نَقْصُ الأَمْوَالِ والأَنْفُسِ، فقد يَحْصُلُ ذلك عند مُحَاربة العَدُوِّ، بأَنْ ينفق مَالَهُ في الاسْتِعْدادِ والجهَادِ، وقد يُقْتَلُ؛ فهناك يحصلُ النَّقْصُ في المال والنفس ] وقال اللَّهُ تَعَالَى :