وانتصاب « خَيْراً » على أحَدِ أوْجُهٍ :
أحدها : إمَّا على إسْقَاط حَرْفِ الجَرِّ، أي : تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ، فلمَّا حذف الحَرْف، انتصب؛ نَحْو قوله :[ الوافر ]
٨٦٠ - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تعُوجُوا | ........................ |
والثاني : أن يكونهَ نعْتَك مصْدرٍ محذوفٍ، أي :« تَطَوُّعاً خَيْراً ».
والثالث : أن يكونَ حالاً مِنْ ذلك المَصْدرَ المقدَّر معرفةً.
وهذا مذهَبُ سِيبَوَيْهِ، وقد تقدَّم ﴿ غَيْرَ مرَّة ]، أو على تضمين « تَطَوَّعَ » فعلاً يتعدَّى، أي : من فَعَلَ خَيْراً مُتَطَوَّعاً به.
وقد تَلَخَّصَ مما تقدَّم أنَّ في قولِهِ :{ فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ وجْهَين :
أحدهما : الجزمُ على القَوْل بكَوْن « مَنْ » شرطيَّةً.
والثاني : الرَّفْعُ؛ عَلَى القَوْلِ بِكَوْنها موصولةً.
فصل في ظاهر قوله :« لا جُنَاحَ عَلَيْهِ »
ظاهرُ قَوْله - تبارك وتعالى - :« لاَ جَنَاحَ عَلَيْهِ » : أنه لا إثْم عليهِ، [ وأن الذي يَصْدُقُ عليه : أنَّه لا إثْمَ عليه ] في فعله يَدْخُلُ تحته الواجبُ والمَنْدُوبُ، والمُبَاحُ، فلا يتميَّز أحدُهُما، إلاَّ بقِيْدٍ زائدٍ، فإذَنْ : ظاهرُ الآية لا يدلُّ على أنَّ السَّعْيَ بين الصَّفاء والمَرْوة واجبٌ، أو مسنونٌ؛ لأنَّ اللَّفظ الدَّالَّ على القَدْرِ المُشْتَرَكِ بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة على خصوصيَّة كلِّ واحدٍ من تلك الأقسام، فإذَنْ، لا بُدَّ من دليل خارجيٍّ، يدلُّ على وجوب السَّعْي، أو مسنونِيَّتِهِ، فذهب بعضهم إلى أنه ركْنٌ، ولاَ يقومُ الدَّمُ مَقَامه.
وعند أبي حنيفَة - رضي الله عنه - : أنه ليس بركنٍ، ويُجْبَرُ بالدم، وعن ابن الزُّبَيْرِ، ومجاهدٍ، وعَطَاءٍ : أنَّ مَنْ تركه، فلا شيء عليه.
احتجَّ الأَوَّلُون بقوله عليه [ أفْضَلُ ] الصَّلاة والسَّلام - « إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ، فَاسْعَوا »
فإن قيل : هذا متروك الظَّاهر، لأنَّه يقتضي وجُوبَ السَّعْي، وهو العدوُ، وذلك غير واجبٍ.
قلنا : لا نسلِّم أنَّ السَّعْيَ عبارةٌ عن العدو؛ [ بدليل قوله تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذِكْرِ الله ﴾ [ الجمعة : ٣٩ ] والعَدْوُ فيه غَيْرُ واجبٍ ] وقال - تبارك وتعالى - :﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ [ النجم : ٣٩ ] وليس المراد منه العَدْوَ، بل الجِدَّ، والاجتهاد، سلَّمنا أنه العَدْوُ، ولكنَّ العدو مشتملٌ على صفة تُرك العملُ به في هذا الصِّفات، فيبقى أصل المشي واجباً :
واحتجُّوا أيضاً : بأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما دنا من الصَّفا، قال :« إنَّ الصَّفَا والمَروَةَ مِنْ شَعَائِر اللَّهِ، ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ به » فبدأ بالصَّفَا فرقي عليه، ثم سعى، وقال ﷺ :« خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ »، وقال تعالى :﴿ واتبعوه ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] وقال تعالى :﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [ الأحزاب : ٢١ ] وقالوا : إنه أشواطٌ شُرعت في بقعة من بِقَاعِ الحَرَمِ ويُؤْتَى به في إحرام كاملٍ، فكان جِنْسُهَا رُكناً؛ كطَوَافِ الزَّيَارة، ولا يلْزَمُ طَوَافُ الصَّدرِ، لأنَّ الكلامَ للجنسِ؛ لوجوبه مرة.