واحتجَّ أبو حنيفة - رضي الله عنه - بوجوهٍ :
منها : قوله تعالى :﴿ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ وهذا لا يقال في الواجبات، وأكَّد ذلك بقوله :« وَمَنْ تَطَوَّعَ » فبيَّن أنه تطوُّع ولَيْسَ بواجبٍ.
ومنها :[ قوله ] :« الحَجُّ عَرَفَةُ فمن أدرك عرفة، فقد تمَّ حَجُّهُ »، وهذا يقتضي التمام من [ جميع ] الوجوه؛ ترك العمل به في بعض الأشياء؛ فيبقى معمولاً به في السَّعْي.
والجوابُ عن الأوَّل من وجوه :
الأوَّل : ما بيَّنَّا [ أن قوله ] :« لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ » [ ليس فيه إلاَّ أنه لا إثم على فاعله ] وهذا القدر مشتركٌ بين الواجب، وغيره؛ فلا يكون فيه دلالةٌ على نفي الوجوب، وتحقيق ذلك قوله تعالى :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ ﴾ [ النساء : ١٠١ ] والقصر عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - واجبٌ، مع أنَّه قال فيه :« فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ » كذا ههنا.
الثاني : انه رفع الجَنَاحُ عن الطَّوَاف [ بهما لا عن الطَّوَاف بينهما ].
والأوَّل عندنا غير واجب، والثاني هو الواجب.
الثالث : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - كان على الصَّفا صنمٌ، [ وعلى المَرْوَة صنمٌ، وكان الذي على الصَّفَا ] اسمُهُ :« إسَافٌ »، والذي على المَرْوَة صنمٌ اسمه « نَائِلَة » وكان أهل الجاهليَّة يطوفون بهما، فلمَّا جاء الإسلام، كره المسلمون الطَّوَافِ بهما؛ لأجل الصنمي، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة. إذا عرفت هذا، فنقول : انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حالالطَّواف، لا إلى نفس الطَّوَاف؛ كما لو كان في الثَّوب نجاسةٌ يسيرٌ عندكم، أو دم البراغيث عندنا، فقيل : لا جُنَاحَ عليكم أن تصلوا فيه، فإنّ رفع الجُنَاحِ ينصرف إلى مكان النجاسة، لا إلى نفس الصلاة.
الرابع : كما ان قوله :« لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ » لا يطلق على الواجب، فكذلك لا يطلق على المندوب؛ ولا شكَّ في أنَّ السَّعْيَ مندوبٌ، فقد صارت الآية متروكة الظاهر، والعمل بظاهرها، وأما التمسُّك بقوله :﴿ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ] فضعيفٌ، وإنه لا يمكن أن يكون المراد من هذا التطوع من الطَّوَافَ المذكور، بل يجوز أن يكون المراد منه شيئاً آخر؛ كقوله :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ] ثم قال :« فَمَن تَطَوَّعَ خيراً » فأوجب عليه الطَّعام، ثم ندبهم إلى التَّطوُّع بالخيرِ، فكان المعنى : فمن تَطَوَّعَ؛ فزاد على طعام مسكينٍ، كان خيراً له، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوُّع مصروفاً إلى شيء آخر؛ وهو من وجهين.
أحدهما : أنه يزيد في الطَّوَاف، فيطُوفُ أكْثَرَ من الطَّوَافِ الواجبِ، مثلُ أن يطُوفَ ثمانية أو أكثر.
والثاني : أن يتطوَّع بعد فرض الحجِّ وعمرته بالحجِّ والعمرة مرةً أخرى؛ حتى طاف بالصَّفَا والمَرْوَة تطوُّعاً.
وقال الحَسَنُ وغيره : أراد سائر الأعمال، يعني : فعل غير الفرض؛ من صلاةٍ، وزكاةٍ، وطواف، وغيرها من أنواع الطَّاعات.


الصفحة التالية
Icon