واعلم أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن، ولا العلم؛ حتى يسلم، ولا يجوز تعليم المبتدع الجدال، والحجاج، ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجَّةً، ليقتطع بها ماله، ولا السُّلطان تأويلاً يتطرَّق به على مكاره الرَّعيَّة، ولا ينشر الرُّخص من السُّفهاء، فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات، ونحو ذلك. وقال - صلوات الله وسلامه عليه - :« لاَ تَمْنَعُوا الحِكْمَةَ أَهْلَهَا؛ فَتَظْلِمُوهُمْ، وَلاَ تَضَغُوهَا في غَيْرِ أَهْلِهَا، فَتَظْلِمُوهَا »
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - :« لاَ تُعَلِّقُوا الدُّرَّ في أَعْنَاقِ الخَنَازِيرِ » يريد تعليم الفقه من ليس من أهله.
قوله تعالى :« مَا أَنْزَلْنَا » مفعول ب « يَكْتُمُونَ »، و « أَنْزَلْنَا » صلته، وعائده محذوف، أي : أنزلناه، و « مِنَ البَيِّنَاتِ » [ يجوز فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنها حالٌ من « ما » الموصولة، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي : كائناً من البَيِّنَات.
الثاني : أن يتعلَّق ب « أَنْزَلْنَا » فيكون مفعولاً به، قاله أَبُو البَقَاءِ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّه إذا كان مفعولاً به، لم يتعد الفعل إلى ضمير، وإذا لم يتعدَّ ] إلى ضمير الموصول، بقي الموصول بلا عائد.
الثالث : أن يكون حالاً من الضمير العائد على الموصول، والعامل في « أَنْزَلْنَا » ؛ لأنه عامل في صاحبها.

فصل في المراد من « البيِّنات »


والمراد من « البَيِّنَاتِ » ما أنزلنا على الأنبياء من الكتاب والوحي، دون أدلَّة العقل.
وقوله « والهُدى » يدخل فيه الدَّلالة العقليَّة، والنَّقْليَّة؛ لما تقدَّم في دليل قوله ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٣ ] أنَّ الهدى عبارةٌ عن الدلائل، فيعمُ الكُلَّ. فإن قيل : فقد قال :﴿ والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ ﴾ فعاد إلى الوجه الأوَّل.
قلنا : الأوَّل : هو التنزيل، والثاني : ما يقتضيه التنزيل من الفوائد.
وهذه الآية الكريمة تدلّ على أن من أمكنه بيان أصول الدِّين بالدلائل العقليَّة لمن كان محتاجاً إليها، ثم تركها، أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع الحاجة إليه، فقد لحقه هذا الوعيد.
قوله تعالى :﴿ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ ﴾ متعلِّق ب « يَكْتُمُونَ »، ولا يتعلَّق ب « أَنْزَلْنَا » لفساد المعنى؛ لأنَّ الإنزال لم يكن بعد التَّبيين، وأمَّا الكتمان فبعد التَّبيين، والضمير في [ « بَيَّنَّاهُ » يعودُ على « ما » الموصولة.
وقرأ الجمهور « بَيَّنَّاهُ »، وقرأ طلحة بنُ مُصَرِّف « بَيَّنَهُ » على ضمير الغائب، وهو التفاتٌ من التكلّم إلى الغيبة، و « للنَّاس » متعلِّق بالفعل قبله.
وقوله :« في الكِتَابِ » يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه متعلِّق بقوله :« بَيَّنَّاهُ ».


الصفحة التالية
Icon