والثاني : أنه يتعلَّق بمحذوف؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المنصوب في ] « بَيَّنَّهُ » أي : بيَّنَّاهُ حال كونه مستقرّاً كائناً كائناً في الكتاب، والمراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة.
فصل في حكم هذا « البيان »
قال بعضهم : هذا الإظهار فرضٌ على الكفاية، لأنَّه إذا أظهره البعض، صار بحيث يتمكنَّ كلُّ أحدٍ من الوصول إليه، فلم يبق مكتوماً، وإذا خرج عن حد الكتمان، لم يجب على البقاين إظهاره مرةً أخرى، والله أعلم.
فصل في الاحتجاج بقبول خبر الواحد
من الناس من يحتجُّ بهذه الآيات على قبول خبر الواحد، لأنَّ أظهار هذه الأحكام واجبٌ، [ ولو لم يجب العمل ]، لم يكن إظهارها واجباً، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ ﴾ [ البقرة : ١٦٠ ] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد كان منهيّاً عن الكتمان، ومأموراً بالبيان؛ [ ليكثر المخبرون ] ؛ فيتواتر الخبر.
فالجواب : هذا غلط؛ لأنَّهم ما نهوا عن الكتمان، إلاَّ وهم ممن يجوز عليهم الكتمان، ومن جاز منهم التَّواطؤ على الكتمان، جاز منهم التواطُؤُ على الوضع والافتراء، فلا يكو خبرهم موجباً للعلم، والمراد من [ الكتاب ] قيل : التَّوراة والإنجيل، وقيل : القرآن، وقيل : أراد بالمُنْزَل الأوَّل ما فيه كتب المتقدَّمين، والثَّاني ما في القرآن.
قوله تعالى :« أولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ » يجوز في « أولَئِك » وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ، و « يَلْعَنُهُم » الخبر؛ لان قوله تعالى :﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على ما قبله، وهو ﴿ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ ﴾ وأن يكون مستأنفاً، وأتى بصلة « الَّذِينَ » فعلاً مضارعاً، وكذلك بفعل اللَّعنة؛ دلالةً على التجدُّد والحدوث، وأن هذا يتجدَّد وقتاً فوقتاً، وكُرِّرَت اللعنة؛ تأكيداً في ذمِّهم. وفي قوله « يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ » التفاتٌ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام، لقال :« نَلْعَنُهُمُ » ؛ لقوله :« أَنْزَلْنَا »، ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضمير.
فصل في معنى اللعنة، والمراد باللاعنين
اللَّعْنَةُ في أصْلِ اللُّغَة : هي الإبْعَادُ، وفي عُرْف الشَّرْع، الإبعادُ من الثَّوَاب، واختلَفُوا في الَّلاعِنِينَ، مَنْ هُمْ؟ فقيل : دوَابُّ الأرض وهوامُّها؛ فإنَّها تقول : مُنِعْنَا القَطْرَ بمعَاصِي بَنِي آدَمَ، قنله مجاهدٌ، عن عِكْرِمَة.
وقال :« اللاَّعِنُونَ »، ولم يقل « اللاعِنَات » ؛ لأنَّه تعالَى وصَفَها بصفةِ مَنْ يعقلُ، فجمعَها جَمْعَ مَنْ يعقلُ؛ كقوله تعالى :﴿ والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [ يوسف : ٤ ] و ﴿ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [ النمل : ١٨ ] ﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ﴾ [ فصلت : ٢١ ].
و ﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [ يس : ٤٠ ] وقيل :« كُلُّ شيْءٍ إِلاَّ الإنْسَ والجِنَّ » قاله ابنُ عَبَّاس.
فإن قيل : كَيْفَ يصحُّ اللعْنُ من البهائِمِ، والجَمَادَاتِ؟
فالجواب مِنْ وجْهين :
الأول : على سبيلِ المُبَالغَةَ، وهي أنَّها لو كانت [ عاقلةً ]، لكانَتْ تَلْعَنُهُمْ.