فصل في سبب تسمية البحر بالبحر
قال اللَّيثُ : سمي البحر بحراً؛ لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه، ويقال : استبحر فلانٌ [ في العلم ]، إذا اتَّسَعَ فيه؛ وتَبَحَّر الرَّاعي في الرَّعي كَثُرَ، وتبحَّر فلانٌ في المال.
وقال غيره : سُمِّيَ البحر بحراً؛ لأنَّه شقّ في الأرض، والبحر الشَّقُّ، ومنه البُحَيْرَة.
قوله تعالى :« بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ». [ في « ما » قولان :
أحدها : أنها موصولة اسميَّةٌ؛ وعلى هذا : الباء للحال، أي : تجري مصحوبةً بالأعيان الَّتي تنفعُ النَّاس.
الثَّاني : أنها ] حرفيَّةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسَّببب، أي : تجري بسَبَبِ نفع النَّاس في التِّجارة وغيرها.
فصل في الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع.
فأما كيفيَّة الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصَّانع تعالى وتقدَّس :
فهو أنَّ السُّفُن، وإن كانت من تركيب النَّاس إلاَّ أنَّه تعالى [ هو الَّذي ] خلق الآلات الَّتي يمكن بها تركيب هذه السُّفُن، وتبحرُ بها الرياح، وقوَّى قلوبَ من ركِبَها، وخصَّ كُلَّ طَرَفٍ من أطراف العالم بشيءٍ معيَّن، وأحوج الكُلَّ إلى الكُلِّ؛ حتَّى صار ذلك داعِياً يدعوهم إلى اقتحامِ هذه الأخطار في هذه الأسفار، ويخَّر البحر لحمل الفلك، مع قوَّة سلطان البحر إذا هاج، وعظُم هوله، واضطربت أمواجه، مع ما فيه من الحيوانات العظيمة ثم إنه تبارك وتعالى يُخَلِّص السُّفُن عنها ويوصِّلاه إلى ساحل السَّلامة، وهذا أمرٌ لا بد له من مدَبِّر، ومقتدر يحفظه، وهذه الآية الكريمة تدلُّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة الاكتساب، والتِّجارة؛ قوله :« بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ».
فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر
البحر إذا أرتج، لم يجز ركوبه لأحدٍ بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه، ولا في الزَّمن الذي الأغلب فيه عدم السَّلامة؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمنٍ يكون الالب فيه السلامة - [ نقله القُرْطُبيُّ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ] [ « من » ] الأولى معناها ابتداءُ الغاية، أي : أنزل من جهة السماء، واما الثانيةُ فتحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون لبيان الجِنسِ فإنَّ المنزل من السَّماء ماءٌ وغيره.
والثاني : أن تكون للتَّبعيض؛ فإنَّ المنزل منه بعضٌ لا كلٌّ.
والثالث : أن تكون هي وما بعدها بدلاً من قوله :« من السماء » بدل اشتمالٍ بتكرير العامل، وكلاهما أعني « مِن » الأولى، و « مِن » الثانية متعلِّقان ب « أَنْزَلَ ».
فالجوابُ : أنَّ الممنوع من ذلك أن يتَّحدا معنًى من غير عطف، ولا بدلٍ، لا تقول : أَخَذْتُ من الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَأَمَّا الآية الكريمة : فإنَّ المحذورَ فيه مُنْتَفٍ، وذلك أنَّك إن جَعَلْتَ « مِنَ » الثانية للبيان، أو للتبعيض، فظاهرٌ؛ لاختلاف معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء، وإن جعلناها لابتداء الغاية، فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوز ذلك فيه، كما تقدَّم، ويجوز أن تتعلَّق « مِن » الأولى بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ؛ إمَّا من الموصول نفسه، وهو « مَا »، أو من ضميره المنصوب ب « أنْزَلَ »، أي : وما أَنْزَلَ اللَّهُ حالَ كَوْنِهِ كائناً من السَّماء.