٨٧٢ - كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ | صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ |
٨٧٣ -...................... | دَبِيبَ قَطَا البَطْحَاءِ في كُلِّ مَنْهِلِ |
فصل في أنَّ حدوث الدواب دليل على وجود الصانع
اعلم أنَّ حدوث الحيوانات قد يكون بالتَّوليد، وقد يكون بالتَّوَالد :
وعلى التقديرين : فلا بُدَّ فيهما من [ الافتقار إلى ] الصَّانع الحَكِيم؛ يُرْوَى أنَّ رَجُلاً قال عند عُمَرَ بن الخَطَّاب - رضي الله عنه - : إنِّي لاأَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ الشِّطْرَنْجِ، فإنَّ رُقْعَتَهُ ذِرَاعٌ في ذِرَاع، وإنَّه لَوْ لَعِبَ الإِنْسَانُ ألْفِ مَرَّةٍ، فَإِنَّه لا يَتَّفِقُ مَرَّتَان على وجه واحد، فقال عمر بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين - : ههنا ما هو أَعجيب منه، وهو أنَّ مقدار الوجه شبرٌ [ في شبرٍ ]، ثم إن موضع الأعضاء التي فيه؛ كالحاجبين، والعينين، والأنف، [ والفم ]، لا يتغيَّر ألبَتَّة، ثم إنَّك لا ترى ضخصين في الشَّرق والغرب يشتبهان في الصُّورة، وكذا اللَّون، والألسنة، والطِّباع، والأمزجة، والصَّوت، والكثافة، واللَّطَافة، والرِّقَّة، والغلظ، والطُّول، والقصر، وبقيَّة الأعضاء، والبَلاَدة، وافِطنة، فما أعظم تلك المقدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرُّقعة الصَّغيرة هذه الاختلافات الَّتي لا حدَّ لها!
ورُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - [ أنه قال ] :« سُبْحَانَ مَنْ أَبْصَرَ بِشَحْمٍ، وأَسْمَعَ بعَظْمٍ، وأنْطَقَ بلَحْمٍ ».
واعلَمْ أنَّ أهل الطبائع؛ قالوا : أعلى العناصر يجبُ أن يكون هو النَّار؛ لأنّها حارَّةٌ يابسةٌ، ودونها في اللَّطافة : الهواء، وهو حارٌّ رطبٌ، ودونها : الماء؛ لأنَّه باردٌ رطبٌ، والأرض لا بدَّ أن تكون تحت الكُلِّ؛ لثقلها، وكثافتها، [ ويُبْسها ]، ثُمَّ إنَّهم قلبوا هذه القضيَّة في [ تركيب ] بَدنِ الإنسان؛ لأنَّ أعلى الأعضاء منه عظم القحف، والعظم وهو باردٌ يابسٌ، فطبيعته على طبيعة الأرض، وتحته الدِّماغُ، وهو باردٌ رطبٌ على طبع الماء، وتحته النَّفَسُ، وهو حارٌّ رطبٌ على طبع الهواء، وتحت الكل : القلبُ، وهو حارٌّ يابسٌ على طبع النَّار، فسبحان من [ بيده قلبُ ] الطبائع، وترتيبها كيف يشاء، وتركيبها كيف أراد.
ومن هذا الباب : أنَّ كُلَّ صانعٍ يأتي بنقشٍ لطيفٍ، فإنَّه يصونه عن التُّراب؛ لئلاَّ يكدِّره، وعن النار؛ لئلاَّ تحرقه، وعن الهواء؛ لئلاَّ يغيره، وعن الماءِ؛ لئلا تذهب به، ثم إنَّه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء؛ فقال تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ]، وقال في النار ﴿ وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ [ الرحمن : ١٥ ] وقال تعالى ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ﴾ [ الأنبياء : ٩١ ] وقال تعالى في الماءِ :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ] ؛ وهذا يدلُّ على أن صنعه بخلاف صنع كُلِّ أحدٍ؛ وأيضاً : انظر إلى الطِّفل بعد افنصاله من أُمّشه، لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً [ فانْقَطَع نَفَسُه ]، لمات في الحَال، ثمَّ إن بَقِيَ في الرَّحم المنطبق مدَّةً [ مديدةً ]، مع تعذُّر النَّفس هناك، ولم يمُتْ، [ ثم إنَّهُ ] بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء، وأبعدها عن الفهم؛ بحيث لا يميز بين الماء والنَّار، وبين الأُم وغيرها، وبعد استكماله يصير أكل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك، ليعلم أنَّ ذلك من عظمة القادر الحكيم، هذا بعض ما في الإنسان.