على اليهود إلزامان.
الأول : جاء فى التوراة أن الله تعالى قال لنوح ﷺ، عند خروجه من الفلك :« إني جعلت كل دابة مأكلاً لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب وما خلا الدّم فلا تأكلوه ».
ثم إنه تعالى حرم على موسى، وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان.
الثاني : كان آدم ﷺ يزوج الأخت من الأخ، وقد حرمه بعد ذلك على موسى ﷺ وعلى غيره.
قال منكر النَّسخ : لا نسلم أن نبوة محمد ﷺ لا تصح إلاَّ مع القول بالنسخ، لأن من الجائز أن يقال : إن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام [ أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد ﷺ ثم بعد ذلك أمر النَّاس باتّباع محمد عليه الصلاة السلام، فعند ظهور شرع محمد ﷺ زل التكليف بشرعهما، وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة السلام لكنه ] لا يكون ذلك نَسْخاً، بل جارياً مجرى قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] ومن أنكر وقوع النسخ من المسلمين بنوا مذهبهم على هذا الحرف، وقالوا : قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قد بشرا في التَّوْرَاة والإنجيل بمبعث محمد ﷺ وأن عند ظهوره يجب الرُّجُوع إلى شرعه، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بقوع النسخ.

فصل فى حجج منكرى النسخ


احتج مكرو النَّسْخ بأن قالوا : إن الله تعالى لما بيّن شرع عيسى ﷺ، فاللفظ الدال على تلك الشريعة، إما أن يقال : إنها دالة على دوامها، أو لا يدل على دوامها، أو [ لم يكن ] فيها دلالة على الدوام، ولا على [ عدم الدوام ]، فإن بيّن فيها ثبوتها على الدوام، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذباً؛ لأنه غير جائز على الشرع، وأيضاً فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق غلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخاً في شرع موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مع أنهما لم يدوما، زال الوثوق عنه في كل الصور.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : ذرك اللفظ الدَّال على الدوام، ثم قرن به ما يدلّ على أنه سينسخه أو ما قرب به إلا أنه نصّ على ذلك، إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة؟
قلت : هذا ضعيف لوجوه :
أحدها : أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جميع بين كلامين متناقضين.
وثانيها : على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخاً، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضاًح لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضاً، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ؛ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التى تتوفّر فيها الدواعي على نقله، وما كان كذلك وجب ا شتهاره، وبلوغه إلى حَدّ التواتر، وإلا فلعلّ القرآن عورض، ولم تنقل معارضته، ولعلّ محمداً ﷺ غير هذا الشرع من هذا الوضع، ولم ينقلن [ وإذا كان ذلك غير جائز وجب ] أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر، فنقول : لو أن الله تعالى نصّ في زمان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهوراً لأهل التواتر، وكان معلوماً لهم بالضرورة، ولو كان كذلك لاستحال مُنَازعة الجمع العظيم فيه، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمان أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخيني.


الصفحة التالية
Icon