قال أبو حيَّان : ولا يتعيَّن ما قالاه؛ إذ يحتمل أن يكون هذا المقدَّر بعد قوله ﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ بل هو الظاهر والأولى؛ لأنَّ في تقديره قبل « غَيْرَ بَاغٍ » فضْلاً بين ما ظاهره الاتصال فيما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله :« غَيْرَ بِاغٍ ».
و « عَادٍ » : اسم فاعل من : عَدَا يَعْدُو، إذا تجاوز حدَّه، والأصل :« عَادِوٌ » فقلب الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها؛ كغاز من الغزو، وهذا هو الصحيح؛ وقيل : إنَّه مقلوب من، عاد يعود، فهو عائدٌ، فقدِّمت اللام على العين، فصار اللَّفظ « عَادِوٌ » فأعلَّ بما تقدَّم، ووزنه « فَالِعٌ » ؛ كقولهم :« شَاكٍ » في « شَائِكٍ » من الشَّوكة، و « هارٍ »، والأصل « هَائِر »، لأنَّه من : هَارَ يَهُورُ.
قال أبُو البَقَاءِ - رحمه الله تعالى - :« ولو جاء في غير القرآن الكريم منصوباً، عطفاً على موضع » غَيْرَ « جاز »، يعني : فكان يقال :« وَلاَ عَادِياً ».
قوله :« اضْطُرَّ » أُحْوِجَ وأُلْجِىءَ، فهو :« افْتُعِلَ » من الضَّرورة، وأصله : من الضَّرر، وهو الضِّيق، وهذه الضَّرورة لها سببان :
أحدهما : الجوع الشَّديد، وألاَّ يجد مأكولاً حلالاً يسدُ به الرَّمَق، فيكون عند ذلك مضطراً.
والثاني : إذا أكره على تناوله.
واعلم أنَّ الاضطرار ليس من فعل المكلَّف؛ حتى يقال : إنَّه لا إثم عليه، فلا بدَّ من إضمارٍ، والتقدير :« فَمَن اضْطُرَّ، فأكَلَ، فلا إِثْمٍ عَلَيْه » ونظيره :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ]، فحذف « فأَفْطَرَ »، وقوله تعالى ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] وإنما جاز الحذف؛ لعلم المخاطب به، ودلالة الخطاب عليه.
والبغي : أصله في اللغة الفساد.
قال الأصمعيُّ : يقال : بغى الجرح بغياً : إذا بدأ في الفساد، وبغت السماء، إذا كثر مطرها، والبغي : الظلم، والخروج عن الإنصاف؛ ومنه قوله تبارك وتعالى ﴿ والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾ [ الشورى : ٣٩ ] وأصل العدوان : الظُّلم، ومجاوزة الحد.

فصل


اختلفوا في معنى قوله « غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } فقال بعضهم :» غَيْرَ بَاغٍ « أي غير خارج على السُّلطان، و » لاَ عَادٍ « متعدٍّ بسفره، أعني : عاص بأن خرج لقطع الطَّريق، والفساد في الأرض، وهو قول ابن عباس، ومجاهدٍ، وسعيد بن جبير.
وقالوا : لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة، إذا اضطر إليها، ولا أن يترخَّص في السَّفر بشيءٍ من الرُّخص؛ حتى يتوب، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل، واختلفوا في معناه.
فقال الحسن، وقتادة، والرَّبيع، ومجاهد، وابن زيد : أي : يأكل من غير ضرورة أي : بغي في أكله »
ولاَ عَادٍ « ن أي : ولا يعدو لشبعه.


الصفحة التالية