والثالث : أنَّهُ خَبَرٌ، والمبتدأ محذوفٌ، أَي : الأمرُ ذلك، والإشارة إلى العَذَابِ، ومَنْ قال بأنَّه نصب، قدَّره :« فعلنا ذلك » [ والباءُ متعلِّقة بذلك المَحْذُوف، ومَعْنَاها السببية.

فصل في اختلافهم في الإشارة ب « ذلك »


اختلفوا في الإشارة بقوله « ذلك » ] إلى ماذا؟ على قولين :
الأوَّل : أنَّهُ إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الوعيد على الكِتْمان، أي : إِنَّما كان لأَنَّ الله أنْزَلَ الكتابَ بالحَقِّ في صفَةِ محمَّد - ﷺ - وإنَّ هؤلاء اليَهُود والنصارى لأجْل مشاقَّة الرَّسُول عليه الصَّلاة والسَّلام يُخْفُونَه، ويوقِعُون التُّهمة فيه، فلا جَرَم، استحقُّو ذلك الوعيد الشديد، ثم تقدَّم في الوعيد أُمُورٌ :
أقربُها : أنَّهم اشتروا العذابَ بالمَغْفرة.
ثانيها : اشْتَرُوا الضَّلالة بالهُدى.
ثالثها : أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً.
رابعها : أَنَّ الله لا يزكِّيهم.
خامسها : أَنَّ الله لا يكلِّمهم.
فقوله :« ذَلِكَ » يصلُحُ أَنْ يكون إشارة إلى [ كلِّ واحدٍ منها، وأن يكونَ إشارةً إلى المَجْمُوع.
والقول الثاني : أَنَّ ذلك إشارةٌ إلى ] ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفَتَهِم أَمْرَ الله، وكتمانِهِمْ ما أَنْزَل الله فبيَّن تبارك وتعالى أَنَّ ذلك إِنَّما هُوَا من أَجلِ الكتابَ بالحَقِّ وقد نزل فيه أَنَّ هؤلاء الكُفَّارَ لا يؤمِنُون، ولا يَنْقَادُونَ، ولا يَكُون منهم إلاَّ الإصْرَار على الكُفْرِ؛ كقوله :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ ﴾ [ البقرة : ٦ - ٧ ] وقوله :« بالحَقِّ »، أَي : بالصِّدق، وقيل : ببيان الحقِّ، والمرادُ من « الكتاب » : يحتمل أن يكُونَ التَّوراة، والإنجيل، ويحتمل أن يكُون القرآن، فإن كَانَ الأَوَّلَ، كان المعنى وإن الَّذين اخْتلَفُوا في تأويله، وتحريفه، لَفِي شِقَاقٍ بعيدٍ وإِنْ كان الثَّاني، كان المعنى : وإن الذين اختلَفُوا في كَونه حقّاً منزَّلاً من عند الله تعالى لَفِي شقَاقٍ بعيدٍ.

فصل في المراد باختلافهم


والمراد باختلافهم :
إِنْ قلنا المراد ب « الكَتِابِ » هو القُرْآن، كان اختلافُهُم فيه : أَنَّ بعضَهُ قال : هو كَهَانَةٌ، وقال آخرون هو سِحْرٌ، وآخرونَ قالُوا : هو رجْزٌ، ورابعٌ قال أساطيرُ الأَوَّلين وخامسٌ قال : إِنَّه كلامٌ مختلف. وإنْ قلنا : المراد ب « الكتَابِ » هو التوراةُ والإِنْجيلُ، فالمراد باختلافهم يحتلم وجُوهاً.
أحدها : اختلافُهُمْ في دَلاَلة التَّوراة على نُبُوَّة المسيح، فاليهود قالوا : إِنَّها دالَّةٌ على القَدْح في عيسى؛ والنصارَى قالوا : إِنَّها دالَّة على نبوَّته.
وثانيها : اختلافهُم في الآياتِ الدالَّة على نُبُوَّة محمَّد - عليه السلام - فَذَكَرَ كلُّ واحدٍ منهم له تأويلاً فاسداً.
وثالثها : قال أبو مُسْلِم : قوله :« اخْتَلَفُوا » من باب « افْتَعَلَ » الذي كون مكان « فَعَلَ »، كما يقال كَسَبَ واكْتَّسَبَ، وعَمِلَ واعْتَمَلَ، وكَتَبَ واكْتَتَبَ، وفَعَلَ وافْتَعَلَ، ويكون معنى قوله :﴿ إِنَّ الذين اختلفوا ﴾ أي : توارَثُوه وصارُوا خُلَفَاء فيه؛ كقوله تبارك وتعالى


الصفحة التالية
Icon