قوله ﴿ ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله ﴾ في هذه الآية خَمْسَة أوجه :
أحدها : أن « البِرَّ » اسم فاعل من : بَرَّ يَبَرُّ، فهو « برُّ » والأصل :« بَرِرٌ » بكسر الراء الأولى بزنة « فطِنٍ » فلمَّا أريد الإدغام، نقلت كسرة الرَّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها؛ فعلى هذه القراءة : لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويلٍ؛ لأنَّ البِرَّ من صفات الأعيان؛ كأنه قيل :« وَلكِنَّ الشخْصَ البِرَّ مَنْ آمن ».
الثاني : انَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره :« ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن » ؛ كقوله تعالى :﴿ والعاقبة للتقوى ﴾ [ طه : ١٣٢ ] أي : لذي التقوى؛ وقوله ﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله ﴾ [ آل عمران : ١٦٣ ] أي : ذوو درجاتٍ، قاله الزَّجَّاج.
الثالث : أن يكون الحذف من الثاني : أي :« وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ » وهذا تخريجُ سيبويه، واختياره، وإنَّما اختاره؛ لأنَّ السابق، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدركُ، إنَّما هو من جنس ما ينفى؛ ونظير ذلك :« لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَماً، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ » ولا يناسبُ :« ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ » وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام، كقوله :﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل ﴾ [ البقرة : ٩٣ ]، أي : حُبَّ العجل، ويقولون : الجود حاتم، والشعير زهير، والشجاعة عنترة، [ وقال الشاعر :[ الطويل ]

٩١٢ -........................... فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أي : ذات إقبالٍ، وذات إدبار.
وقال النَّابغة :[ المتقارب ]
٩١٣ - وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
أي : كخلالة أبي مرحب ]، وهذا اختيار الفرَّاء، والزَّجَّاج، وقطرب.
وقال أبو عليٍّ : ومثل هذه الآية الكريمة قوله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج ﴾ [ التوبة : ١٩ ]، ثم قال :﴿ كَمَنْ آمَنَ بالله ﴾ [ التوبة : ١٩ ] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين، أو بين فاعلين؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ، وفاعلٍ.
الرابع : أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً؛ نحو : رجل عدل.
ويحكى عن المبرِّد :« لو كنت ممَّن يقرأ القرآن، لقرأت » وَلَكِنَّ البَرَّ « بفتح الباء » وإنَّما قال ذلك؛ لأن « البَرَّ » اسم فاعل، نقول بَرَّ يَبَرُّ، فهو بَارٌّ، فتارة تأتي به على فاعل، وتارة على فعل.
الخامس : أن امصدر وقع موقع اسم الفاعل، نحو : رجل عدلٌ، أي : عادل، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه، نحو : أقائماً، وقد قعد الناس؛ في قولٍ، هذا رأي الكوفيين، والأولى فيه ادِّعاء أنه محذوفٌ من فاعلٍ، وأن أصله : بارٌّ، فجعل « برّاً »، وأصله ك « سِرٍّ »، و « رَبٌّ » أصله « رابٌّ »، وقد تقدم.
وجعل الفراء « مَنْ آمَنَ » واقعاً موقع الإيمان، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه؛ كأنه قال :« وَلَكِنَّ البِرَّ الإيمانُ باللَّهِ » قال : والعَرَبُ تجعل الاسم خبراً للفعل، وأنشد في ذلك :[ الطويل ]


الصفحة التالية
Icon