٩١٤ - لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي
جعل نبات اللحية خبراً للفتيان، والمعنى : لعمرك ما الفتوَّة أن تنبت اللِّحى.
وقرأ نافعٌ، وابن عامر :« وَلَكِن البِرُّ » هنا وفيما بعد بتخفيف « لَكِنْ » وبرفع « البِرُّ »، والباقون بالتَّشديد، والنَّصب، وهما واضحتان ممَّا في قوله :﴿ ولكن الشياطين كَفَرُواْ ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ].
وقرئ :« وَلِكنَّ البَارَّ » بالألف، وهي تقوِّي أنَّ « البِرَّ » بالكسر المراد به اسم الفاعل، لا المصدر.
قال أبو عُبَيْدَةَ :« البِرُ » هاهنا بمعنى البَارِّ، كقوله :﴿ والعاقبة للتقوى ﴾ [ طه : ١٣٢ ] أي : للمتَّقين، ومنه قوله تعالى :﴿ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً ﴾ [ الملك : ٣٠ ] أي : غائراً، وقالت الخنساء :[ البسيط ]
٩١٥ - وَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ... أي : مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر، وقيل : البر : كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة، قال تعالى :﴿ إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [ الإنسان : ١٣ ].
ووحَّد الكتاب لفظاً، والمراد به الجمع؛ وحسَّن ذلك كونه مصدراً في الأصل، أو أراد به الجنس، أو أراد به القرآن، فإنَّ من آمن به، فقد آمن بكل الكتب، فإنه شاهدٌ لها بالصِّحَّة.

فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرِّ


اعلم أنَّ الله تعالى اعتبر في تحقيق البِرِّ أموراً :
أحدها : الإيمانُ بخمسة أشياء :
أولهاك الإيمان بالله، ولا يحصل ذلك إلاَّ باعلم بذاته المخصوصة، وبما يجب، ويجوز، ويستحيل عليه، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلاَّ بالعلم بالدلائل الدالَّة عليها، فيدخل فيه العلم بحدوث العالم، والعلم بالأصول التي يتفرَّع عليها حدوث العالمن ويدخل فيه العالم.
بوجوده، وقدرته، وبقائه، وكونه عالماً بكلِّ المعلومات قادراً على كلِّ الممكنات.
وثانيها : الإيمان باليوم الآخر، وهذا متفرِّع على الأوَّل؛ لأنَّا إن لم نعلم قدرته على جميع الممكنات، لا يمكننا أن نعلم صحَّة الحشر والنَّشر.
وثالثها : الإيمان بالملائكة.
ورابعها : الإيمان بالكتب.
وخامسها : الإيمان بالرسل.
فإن قيل : لا طريق لنا غلى العلم بوجود الملائكة، ولا إلى العلم بصدق الكتب، إلاَّ بواسطة صدق الرُّسل، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب، فلم قدَّم الملائكة والكتب في الذِّكر على الرُّسل؟
فالجواب : أنَّ الأمر، إن كان كذلك في عقولنا، إلاَّ انَّ الترتيب على العطس؛ لأنَّ الملك يوجد أوَّلاً، ثم صحل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل، فالمراعى في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجيِّ، لا الترتيب الذهنيُّ؛ فدخل تحت الإيمان بالله معرفته، ودخل تحت الإيمان باليوم الآخر معرفة ما يلزم من أحكام العقاب، والثَّواب، والمعاد، ودخل تحت الإيمان بالملائكة ما يتَّصل بإتيانهم الرسالة إلى الأنبياء؛ ليؤدُّوها إلينا إلى غير ذلك ممَّا يجب أن يعلم من أحوال الملائكة، ودخل تحت الإيمان بالكتاب القرآن، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه، ودخل تحت الإيمان بالنَّبِيِّين الإيمان بنبوِّتهم، وصحَّة شريعتهم، فلم يبق شيءٌ مما يجب الإيمان به، إلاَّ دخل تحت هذه الآية.


الصفحة التالية
Icon