وتقرير آخر : وهو أنَّ للمكلَّف مبتدأً ووسطاً، ونهايةً، ومعرفة المبدأ والنهاية؛ هو المراد من الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر.
وأمَّا معرفة الوسط، فلا يتمُّ إلاَّ بالرِّسالة، وهي لا تتمُّ إلا بثلاثة أمور :
الملك الآتي بالوحي، ونفس الوحي، وهو الكتاب، والموحى إليه، وهو الرسول - ﷺ -.
وفي تقديمه الإيمان على أفعال الجوارح؛ من إيتاء المال، والصلاة، والزَّكاة - تنبيهٌ على أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح.
الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقيق البرِّ قوله :﴿ وَآتَى المال على حُبِّهِ ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ]، فالجار والمجرور في محلِّ نصب على الحال اعامل في « آتي » أي : آتي المال حال محبَّته له، واختياره إيَّاه، والحُبُّ : مصدر « حَبَبْتُ »، لغةً في « أَحْبَبْتُ » ؛ كما تقدَّم، ويجوز أن يكون مصدر الرُّباعيِّ على حذف الزوائد، ويجوز أن يكون اسم مصدر، وهو الإحباب؛ كقوله :﴿ والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾ [ نوح : ١٧ ] والضمير المضاف إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال :
أظهرها : أنه يعود على المال؛ لأنَّه أبلغ من غيره.
قال ابن عبَّاس، وابن مسعود :« هو أن تُؤْتيَهُ، وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تَأْمُلُ الغِنَى، وتخشَى الفَقْر، وَلاَ تُهْمِلْ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ : لِفُلاَنِ كَذَا، ولِفُلاَنِ كذا » وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.
أمَّا من حيث اللفظ : رواية أبي هريرة، قال : جاء رجل إلى النَّبيِّ ﷺ فقال : يَا رَسُولَ الله، أيُّ الصَّدَقةِ أعْظَمُ أجراً؟ قال :« أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ » وذكره.
الثاني : أنه يعود على الإيتاء المفهوم من قوله تعالى :« آتى »، أي : على حبِّ الإيتاء؛ كأنه قيل : يعطي، ويحبُّ الإعطاء؛ رغبةً في ثواب الله.
قال شهاب الدِّين : وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى.
أما من حيث اللفظ : فإنَّ عود الضمير على غير مذكور، بل مدلولٍ عليه بشيء - خلاف الأصل.
وأمَّا من حيث المعنى : فإنَّ المدح لا يحسن على فعل شيء يحبه الإنسان، لأنَّ هواه يساعده على ذلك.
قال زهير :[ الطويل ]
٩١٦ - تَرَاهُ إذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً | كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ |