فصل في معنى قوله « بِعَهْدِهِمْ »


في هذا العهد قولان :
أحدهما : هو ما أخذه الله على عباده على ألسنة رسله من الإيمان، والقيام بحدوده، والعمل بطاعته؛ لما أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الكتاب : أنَّهم نقضوا العهود والمواثيق، فجحدوا أنبياءه، وقتلوهم، وكذَّبوا بكتابه. واعترض القاضي على هذا القول، وقال : إنَّ قوله تبارك وتعالى :« المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ » صريحٌ في إضافة العهد إليهم، ثم إنه تعالى أكَّد ذلك بقوله :« إذَا عَاهَدُوا »، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداءً من قبله تعالى.
وأجيب : بأنه تعالى، وإن ألزمهم هذه الأشياءن لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام، والتزموه، فصحَّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه.
القول الثاني : أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلَّف ابتداءً من عند نفسه.
واعلم أنّ هذا العهد إمَّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى؛ كاليمين والنَّذر، وما أشبهه، أو بينه وين رسول الله؛ كالبيعة؛ من القيام بالنُّصرة والمجاهدة، والمظاهرة، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، او بينه وبين النَّاس، وقد يكون ذلك واجباً، مثل : ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التَّسليم والتَّسلُّم، والشرائط التي يلتزمها في السَّلم، والرَّهن وغيره، وقد يكون مندوباً؛ مثل : الوفاء بالعهد في بذل الماء، والإخلاص في المناصرة.
فقوله ﴿ والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ﴾ يتناول كل هذه الأقسام؛ فلا تقتصر الآية على بعضها، وهذا هو الذي عبر عنه المفسِّرون، فقالوا : هم الذين إذا وعدوا، أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا، وفَّوا، وإذا قالوا، صدقوا، وإذا ائتمنوا، أدَّوا.

فصل في بلاغة قوله « والمُوفُونَ » دون « وأَوْفَى »


قال ارَّاغب : وإنَّما لم يقل « وأوْفَى » ؛ كما قال « وأَقَامَ » ؛ لأمرين :
أحدهما : اللفظ، وهو أن الصِّلة، متى طالت، كان الأحسن أن يعطف على الموصول، دون الصلة؛ لئلاَّ يطول ويقبح.
والثاني : أنَّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيِّز الشريعة، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليَّة تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر وفاء العهد، وهو مما تقضي به العقول المجرَّدة، صارعطفه على الأوَّل أحسن، ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه : جامعاً للفضائل؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ - غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد؛ وهذا كلام حسن.
وحكى الزَّمخشريُّ قراءة « والمُوفِينَ »، « والصَّابِرِينَ » وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب :« وَالمُوفُونَ »، « والصَّابِرُونَ ».

فصل في الأحكام المستافدة من الآية


قال القرطبيُّ : تضمَّنت هذه الآية الكريمة ستَّ عشرة قاعدةً من أُمَّهات الأحكام :
الإيمان بالله وبأسمائه، وصفاته، والحشر، والنشر، والصراط، والحوض، والشَّفاعة، والجنة، والنار، والملائكة، والرُّسل، والكتب المنزلة، وأنَّها حقٌّ من عند الله؛ كما تقدم، والنَّبيين، وإنفاق المال فيما يعنُّ له من الواجب، والمندوب، وإيصال القرابة، وترك قطعهم، وتفقُّد اليتيم، وعدم إهماله المساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل، وهو : المسافر المنقطع به، وقيلك الضعيف، والسُّؤَّال، وفكّ الرقاب، والمحافظة على الصَّلوات، وإيتاء الزَّكاة، والوفاء بالعهود، والصَّبر في الشَّدائد، وكلُّ قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب.


الصفحة التالية
Icon