الثاني : أن « الباء » من حروف الجَرِّ، فتتعلَّق بفعلٍ، فيكون التقدير : يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعمَّ من الخبر، بل إمَّا مساوياً له، أو أخص منه، وعلى هذا التقدير فهذا يقتضي أن يكون كلُّ حُرٍّ مقتولاً بالحُرِّ، وذلك ينافي كلَّ حُرٍّ مقتولاً بالعبد.
الثالث : أنه تبارك وتعالى أوجب في أول الآية الكريمة رعاية المماثلة، وهو قوله ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى.. ﴾، فلما ذكر عقيبة قوله :﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد ﴾ دلَّ على أن رعاية التَّسوية في الحُرِّيَّة والعبوديَّة معتبرةٌ؛ لأن قوله :﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد ﴾ خرج مخرج التَّفسير لقوله ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى.. ﴾، فإيجاب القصاص على الحُرِّ بقتل العبد إهمال لرعاية التَّسوية؛ فوجب ألاَّ يكون مشروعاً؛ ويؤيِّد ما ذكرنا قوله ﷺ « لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلاَ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ »، فإن أخذ الخصم بقوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، فالجواب من وجهين :
أحدهما : هذه الآية شَرْعُ مَنْ قبلنا وليسَ شَرْعاً لَنا، والآيةُ التي نَحْنُ فيها شرْعُنا، فهذا أقوَى في الدَّلالة.
والثاني : أن هذه الآية الكريمة مشتملةٌ على أحْكَام النُّفُوس على التفصِيل والتَّخْصيص، وتلك عامَّةٌ، والخاصُّ متقدِّم على العامِّ، ثم قال أَصْحَابُ هذا القَوْل إِنَّ ظاهِر الآية يقتضِي ألاَّ يُقتل العبد بالحرّ ولا تقتل الأنثَى بالذَّكَر، إِلاَّ إِذَا خالَفْنا هذا الظاهر؛ للإجمَاع وللمعنى المستنبطِ من نَسقِ هذه الآية الكريمة، وذلك المعنَى غير موجُود في الحُرِّ بالعَبْد؛ فوجب أَنْ يبقَى هاهنا على ظاهر اللَّفظ، أَمَّا الإجمْمَاعُ فظاهرةٌ، وَأَمَّا المعنَى المستنبَطُ، فهو أنه لَمَّا قتل العبدُ بالعبدِ، فَلأَنَّ يقتَلَ بالحرِّ الذي هو فوقه أولى، بخلاف الحر، فإنَّ لمَّا قتل بالحرِّ، لا يلزم : أنْ يُقْتَل بالعبد الَّذي هو دونَهُ، وكذا القَوْل في قتل الأنثَى بالذَّكَر، وأَمَّا قتل الذَّكَر بالأُنْثَى، فليس فيه إِلاَّ الإجماعُ.
القول الثاني : أَنَّ قوله تعالى :﴿ الحر بِالْحُرِّ ﴾ لا يفيدُ الحَصْر، بل يفيد شَرْع القِصَاص بيْن الذُّكُور من غير أن يكُون فيه دَلالَةٌ على سائر الأقسامِ؛ واحتجُّوا عليه بوجهين :
الأول : أنَّ قوله :﴿ والأنثى بالأنثى ﴾ يقتضي قِصَاص المرأة الحُرَّة بالمرأة الرقيقَةِ، فلو كان قوله ﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد.. ﴾ مانعاً من ذلك، لوقع التناقض.
الثاني : أنَّ قولَهُ تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى.. ﴾ جملةٌ تامّضة مستقلَّةٌ بنَفْسها.
وقوله :﴿ الحر بِالْحُرِّ ﴾ تخصيصٌ لبعض الجزئيَّاتِ بالذِّكْرن وتخصيص بعض الجزئيَّات بالذِّكِر لا يمنع مِنْ ثُبُوت الحُكْم؛ كسَائِر الجزئيَّات، وذلك التخصيصُ يمكنُ أنْ يكُون لفائدةٍ سوى نَفْي الحُكْم عن سائِرِ الصُّور، ثم اختلَفُوا في تلك الفَائدة، فذكَرُوا فيها وجهين :
الأول : وعَليْه الأكْثَرُونَ : أَنَّ فائدته إِبطالُ ما كان علَيْه الجاهليَّةُ من أنهم كانوا يقتُلُون بِالَعَبْدِ منهم الحُرَّ من قبيل القَاتِل، ففائدةُ التخصيص زجْرُهُم عن ذلك، وللقائلين بالقَوْلِ الأَوَّل : أَنْ يقولُوا : قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحرِّ بالعبد، لأَنَّ القِصَاص عبارةٌ عن المُساواة، وقتل الحُرِّ بالعبد لم يحصُلْ فيه رعايةُ المُسَاواة، لأَنَّهُ زائدةٌ علَيْه في الشَّرف، وفي أهليَّة القضاء، والإِمامة، والشهادَة؛ فوجب ألاَّ يُشْرعَ، أقْصَى ما في البَاب أنه ترك العَمَل بهذا النَّصِّ في قتْل العَالِمِ بالجاهِل، والشَّريف بالخَسِيس بالإجْماع إِلاَّ أَنَّهُ يبقَى في غير محلِّ الإجماع على الأَصلِ، ثم إِنْ سلَّمنا أنَّ قوله ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ يوجِبُ قتْل الحر بالعَبْد، إِلاَّ أنَّا بَينَّا أنَّ قوله :﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد ﴾ يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحُرّ بالعبد؛ لأَنَّ هذا خاصٌّ، وما قبله عامٌّ، والخاصُ مقدَّم على العامِّ، ولا سيَّما إِذَا كان الخاصُّ متَّصلاً بالعامٌ في اللَّفْظِ، فإنه يكون بمنزلة الاستثناءِ، ولا شَكَّ في وُجُوب تقديمة على العامِّ.


الصفحة التالية
Icon