وثانيها : أنَّه أثْبَتَ الأخوَّة بيْن القاتل، وبيْن وليِّ الدم، ولا شَكَ أنَّ هذه الأخوَّة تكُون بسَبَب الدِّينِ، قال تعالى :﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] فلولا أَنَّ الإيمَانَ باقٍ مع الفسقِ، وإلاَّ لما بقِيت الأخوَّة الحاصلةُ بسبب الدين.
وثالثها : أنه تبارك وتعالى نَدَبَ إلى العَفْو عن القاتِلِ، والندب إلى العَفْو، إِنَّما يليقُ بالمؤمن.
أجابت المعتزلة عن الأَوَّل : فقالوا : إِنْ قلْنا : المخاطبُ بقوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ هم الأَئمَّةُ، فالسُّؤالُ زائلٌ : وإِنْ قلْنا : هُمُ القاتِلُون، فجوابُهُ مِنْ وجهين :
أحدهما : أن القاتل قبل إقدامِهِ على القَتْل، كان مؤمناً فسمَّاه الله تعالى مؤْمنا بهذا التأويل.
الثاني : أن القاتل قد يَتُوب، وعنْد ذلك يكُونُ مؤمناً، ثم إِنَّه تعالَى أَدْخَلَ فيه غير التائبِ تغليباً.
وأجابُوا عن الثَّاني بوجوه :
الأوَّل : أَنَّ الآية نزلَتْ قبل أن يقتل أحدٌ أحداً، ولا شكَّ أَنَّ المؤمنين إخوةٌ قبْل الإقدام على القَتْل.
والثاني : الظاهر أنَّ الفاسق يتوبُ، أو نَقُولك المرادُ الأخُوَّة بيْن وليِّ المقتول والقتيل؛ كما تقدَّم.
الثالث : يجوز أن يكون جعلُه أخاً له في الكتاب؛ كقوله :﴿ وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ﴾ [ الأعراف : ٦٥ ].
الرابع : أنَّه حصَلَ بيْن وليِّ الدمِ، وبيْن القاتل نوعٌ تعلّقُ واختصاصٍ، وهذا القَدْرُ يكْفي في إِطلاق اسْمِ الأُخُوَّة، كما نقول للرجُل : قلْ لصاحبك كذا، إِذَا كان بينهما أَدنَى تعلُّق.
الخامس : ذكر لفْظ الأخُوَّة؛ ليعْطِف أحدَهُما على صاحبه بِذِكْره ما هو ثابتٌ بينهما من الجنسيَّة.
وعن الثَّالث : أنَّه ندبه لما بينهما من أصل الإقرار والاعتقاد.
والجوابُ : أنَّ هذه الوجوه كُلَّها تقتضِي تقْييدَ الأخُوَّة بزمانٍ دون زمانٍ، وبصفَةٍ دون صفةٍ، والله تعالى أَثْبَتَ الأخوَّةَ على الإطْلاق، وهذا الجوابُ لا يردُّ ما ذكَرُوه في الوَجْه الثاني مِنْ قولهم : المرادُ بالأخُوَّة الَّتي بيْن وليِّ الدم والمقتولِ؛ كأنه قيل :« فَمَنْ عُفِيَ لَهُ بسبب أخِيه المَقتُول شَيْء والمراد : الدِّيَةُ : فَلْيَتَّبعْ وليُّ الدَّم القاتلَ بالمعروف، وَلأْيُؤَدِ القاتلُ الديةَ إلى وَلِيِّ الدَّمِ بإحسان؛ وحينئذ يحتاجُ هذا إلى جوابٍ.
قوله :﴿ فاتباع بالمعروف ﴾ في رفْع »
اتِّبَاعٌ « ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون خبر مبتدأ محذوف، فقدره ابن عطيَّة - رحمه الله تعالى - والواجبُ الاتباعُ وقدَّره الزمخشريُّ :»
فالأَمْر اتِّباعٌ «. ؟
قال ابن عطيَّة : وهذا سبيلُ الواجباتِ، وأَمَّا المندوبات، فتجيء منصوبةً؛ كقوله ﴿ فَضَرْبَ الرقاب ﴾ [ محمد : ٤ ] قال أبو حيَّان : ولا أدري ما الفَرٌْ بين النَّصْب والرفع، إلاَّ ما ذكروه من أَنَّ الجملة الاسمية أثبَتُ وآكد؛ فيمكن أن يكُونَ مستند ابن عطيَّة هذا، كما قالوا في قوله :﴿ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ ﴾ [ هود : ٦٩ ].
الثاني : أن يرتفع بإضمار فعل، وقدره الزمخشري :»
فليكن اتباعٌ « قال أبو حيَّان : هو ضعيفٌ؛ إِذْ » كَانَ « لا تضمَرُ غالباً إلاَّ بعد » إِن « الشَّرطيَّة و » لَوْ « ؛ لدليلٍ يَدُلُّ عليه.


الصفحة التالية
Icon