روى مقسّم عن ابن عبَّاسٍ أنه سُئِلَ عن قوله عزَّ وجلَّ :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ﴾ وقوله ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾ [ القدر : ١ ]، وقوله ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ [ الدخان : ٣ ] وقد نزل في سائر الشُّهُور، وقال عزَّ وجلَّ :﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ] فقال : أُنْزِلَ القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزَّة في السماء الدُّنيا، ثم نزل به جبريل - عليه السَّلام - على رسول الله ﷺ نجوماً في ثلاث وعشرين سنة، فذلك قوله :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم ﴾ [ الواقعة : ٧٥ ] وقال داود بن أبي هندٍ : قلت للشَّعبيِّ :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ﴾ أما كان ينزل في سائر السنَّة؟ قال : بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمَّداً ﷺ في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء، ويثبت ما يشاء، وينسيه ما يشاء.
وروي عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ ﷺ قال :« أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهيمَ في ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرَ رَمَضَانَ » ويُروى :« في أَوّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ » وأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى في سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ إنْجِيلُ عِيسَى في ثَلاَثِ عَشَرَةَ ليلة مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ في ثَمانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ الفُرْقَانُ عَلَى محمَّد ﷺ لأرْبَع وعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، ولستٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجماً مفرَّقاً في سورة « الفُرْقَان » عند قوله :﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [ الفرقان : ٣٢ ].
والجواب الثاني : أن المراد منه : أنَّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شَهْر رمَضَانَ، وهو قول محمّضد بن إسحاق؛ وذلك لأنَّ مبادئ الملل والدُّول هي الَّتي يؤرَّخ بها؛ لكونها أشرف الأوقات، ولأنَّها أيضاً أوقاتٌ مضبوطةٌ.
واعلم أن الجواب الأول حمل للكلام على الحقيقة، وفي الثاني : لا بُدَ من حمله على المجاز؛ لأنًّث حمل للقرآن على بعض أجزائه.
روي أن [ عبد الله بن ] عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - استدلَّ بهذه الآية الكريمة، وبقوله ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾ [ القدر : ١ ] على أن ليلة القدر لا تكون إلاَّ في رمضان، وذلك لأنَّ ليلة القدر، إذا كانت في رمضان، وكان إنزاله في ليلة القدر إنزالاً في رمضان، وهذا كمن يقول :« لَقِيتُ فُلاناً في هَذَا الشَّهْرِ »، فيقال له : في أيِّ يوم منه؟ فيقول : في يوم كذا، فيكون ذلك تفسيراً لكلامه الأول وقال سفيان بن عُيَيْنَةَ :« أُنْزلَ فِيهِ القُرآنُ »، معناه : أُنْزِلَ، في فضله القرآن، وهذا اختيار الحسين بن الفضل؛ قال : وهذا كما يقال :« أُنْزِلَ في الصِّدِّيق كَذَا آيةً » يُرِيدُونَ في فضله.
قال ابن الأنباريِّ : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم؛ كما يُقَالُ أنزل الله في الزَّكَاة آية كَذَا؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر، يريدون في تحريمها.