فصل
قد تقدَّم في قوله تعالى :﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا ﴾ [ البقرة : ٢٣ ] أنَّ التنزيل مختصٌّ بالنُّزُول على سبيل التَّدريح، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل ﴾ [ آل عمران : ٣ ] ذا ثبت هذا، فنقول : لَمَّا كان المراد ها هنا من قوله « شَهْرُ رَمَضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ » إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا - لا جرم ذكره بلفظ « الإنزال » دون « التَّنزيل »، وهذا يدلُّ على أن هذا القول راححٌ على سائر الأقوال.
قوله « هُدًى » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعامل فيه « أُنزِلَ » وهُدىً مصدرٌ، فإمَّا أن يكون على حذفٍ مضافٍ، أي : ذا هدىص، أو على وقوعه موقع اسم الفاعِلِ، أي : هادِياً، أو على جعله نفس الهُدَى مبالغةً.
قوله :« لِلنَّاسِ » يحوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب « هُدىً » على قولنا بأنه وقى موقع « هَادٍ »، أي : هادياً للناس.
والثاني : أن يتلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ للنكرة قبله، ويكون محلُّه النصَّب على والثاني : أن يتعلَّ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للنكرة قبله، ويكون محلُّ النَّصب على الصفة، ولا يجوز أن يكون « هُدَى » خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره :« هُوَ هَدىً » ؛ لأنه عطف عليه منصوبٌ صريحٌ، وهو :« بَيَّنَاتٍ » ؛ و « بَيِّنَاتٍ » عطفٌ على الحال، فهي حالٌ أيضاً وكلا الحالين لازمةٌ؛ فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، لأنَّ الهدى يكون بالاشياء الخفيَّة والجليَّة، والبَيِّنَاتُ من الأشياء الجَليَّة.
فإن قيل : ما معنى قوله ﴿ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ﴾ بعد قوله :« هُدىً ».
فالجواب من وجوه :
الأول : أنه تبارك وتعالى ذكر أولاَّ أنه هُدىً، ثمَّ الهُدَى على قسمين :
تارةً : يكون هدىً للنَّاس بيِّناً جَليَّاً.
وتارةً : لا يكون كذلك.
والقسم الأول : لا شكَّ أنَّه أفضل؛ فكأنه قيل : هو هدىً؛ لأنه هو البيِّن من الهدى، والفارق بين الحقِّ والباطل، فهذا مِنْ باب ما يُذكَر الجنْسُ، ويعطف نوعه عليه؛ لكونه أشرف أنواعه، والتقدير : كأنه قيل : هذا هُدىً، وهذا بَيِّنٌ من الهدى، وهذا بيِّناتٌ من الهُدَى، وهذا غاية المبالغة.
الثاني : أن يقالك القرآن هدىً في فنسه، ومع كونه كذلك، فهو أيضاً بيِّناتٌ من الهُدَى والفرقان، والمراد : ب « الهُدَى والفُرْقَانِ » التوراة والإنجيل؛ قال تعالى :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان ﴾